الأربعاء، 22 يوليو 2015

إيران وإستراتيجية كسر الدوائر الساخنة

الدكتور عادل عامر
أن الاتفاق الموقع بين إيران والدول العظمى في جنيف يعزز آمال الإيرانيين بأن يتعافى اقتصاد بلادهم الذي يعاني جراء العقوبات الدولية، ففي أعقاب الإعلان عن الاتفاق قفزت العملة الإيرانية أكثر من ثلاثة بالمائة مقابل الدولار الأمريكي، كما أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية فور الإعلان عن الاتفاق عن 8 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة من جانبها، ومن المتوقع أن تتدفق على البلاد عشرات الشركات الأجنبية من أجل الاستثمار في القطاع النفطي الذي يحتاج لاستثمارات بمليارات الدولارات من أجل إعادة إنعاشه، وبالتأكيد علي أنه وبالرغم من الاتفاق النووي الجديد لم يكفل لإيران اجتياز الكثير من الأزمات المالية وصرف مستحقاتها النفطية إلا بشكل محدود، إلا أنه مؤشر جيد لانتعاش الاقتصاد الإيراني مستقبلاً.
إذا كانت أمريكا في أرض بوش قد تصرفت كما لو كانت شرطياً يجمع الحشود ليطارد بهم المجرمين، فإن أمريكا في عالم أوباما ستنزع السلاح من خصومها من خلال توريطهم في شبكة عنكبوتية من التعاون.
بالنسبة للرئيس لم يكن ثمة ما يكشف بوضوح عن العجز التصوري لدى أرض بوش أكثر من غزو العراق في عام 2003. قبل أن يأتي إلى واشنطن كان أوباما قد عارض الإطاحة بدكتاتور العراق صدام حسين. وعارض حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ "زيادة القوات" التي أمر بها بوش وتقدم بتشريع لإنهاء الحرب. وبعد تنصيبه بقليل في يناير 2009 تعهد بإعادة القوات الأمريكية إلى البلاد في العاجل -وهو الالتزام الذي وفى به فعلاً- ولكن إذا كانت الدعوة إلى الانسحاب من العراق موقفاً سهلاً نسبياً اتخاذه من قبل عضو في مجلس الشيوخ، فإنه بالنسبة للرئيس يثير إشكالاً عملياً مهماً: فتجاوزاً للشعوذات المجردة مثل "لا يمكن لأمة أن تهيمن على أمة أخرى"، ما هو النظام الجديد الذي سيحل محل المنظومة التي قادتها أمريكا والتي عمل بوش على إنشائها؟
ومن هنا تبرز على الساحة قضية المنافسة الإقليمية بين الدول متوسطة القوة، وحدودها وأنماطها، وما يترتب عليه من تأثيرات على شكل النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وتبرز تلك القوى التي يمكن وصفها بأنها قوى ما بين متوسطة ومتوسطة صاعدة، تمتلك مقومات القوة وتطمح إلى لعب دور أكبر مما هو متاح لها في الإقليم، مستغلة تصاعد مؤشرات قوتها في الفترة الأخيرة، وعلى رأسها تركيا وإيران. بينما على الجانب الآخر تظل هناك قوى إقليمية متوسطة تمر بمراحل هبوط في منحنى قوتها القومية، مثل الدولة المصرية؛ مما له من أثر على إعادة تشكل النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وتداعيات ذلك على تفاعلات القوة وعلى شكل الخريطة الإقليمية في المنطقة. وبين تلك الدول تقف المملكة العربية السعودية، التي وجدت نفسها مجبرة على التدخل في مناطق الصراع المحيطة بها، وبأن تواجه المخاطر خارج حدودها بترحيل خطوطها الدفاعية بعيدًا عن مثيرات الصراعات الداخلية في البلاد، فبعد تحطم نظام صدام حسين بزغت إيران كوريثة للنظام في العراق، واتسعت دائرة نفوذها لتصل إلى ساحل المتوسط عند حدود الدولة اللبنانية، وأدى ذلك إلى اشتعال الكثير من نقاط التماس حول حدود المملكة؛ سواء في جنوب العراق أو في البحرين أو في اليمن وامتدادا حتى غرب باكستان، وكان لذلك أثر وصل حتى عمق منظومة مجلس التعاون الخليجي ذاته، برؤى مختلفة لكيفية التعامل مع التهديد الإيراني المحتمل، وبأولويات الاتحاد الاقتصادية والأمنية، كما صعدت تركيا في حقبة العدالة والتنمية منذ عام 2002، لتصنع لها دائرة نفوذ جديدة في العالم العربي، تتقاطع بالضرورة مع كل من المصالح الإيرانية والسعودية. وكان ذلك، ومايزال، السؤال الاستراتيجي الأساسي الذي واجهه أوباما في الشرق الأوسط، والذي لن يجد الباحث في خطاباته كلها عن إجابة له مهما بذل من جهد.
كما زادت الولايات المتحدة من تصديرها للأسلحة للعراق، حيث باعت لها أسلحة تجاوزت 8 مليار دولار منذ 2005، كما قررت واشنطن تصدير طائرات بدون طيار إلى العراق من طراز ScanEagle تكلفة الواحدة مائة ألف دولار، كما ستحصل بغداد أيضًا على 75 صاروخ هيلفاير يصل تكلفة الواحد إلى 70 ألف دولار، وكل تلك الأسلحة ـ بالإضافة إلى مروحيات الأباتشي ـ مخصصة لمحاربة القاعدة وما تصفه بالتمرد السني في المحافظات الغربية في الأنبار وحولها، وسيتم استهداف معسكرات القاعدة، وذلك بمساعدة من الاستخبارات الأمريكية التي ستوجه الصواريخ العراقية على الأرض.
وهذا التوتر بين إيران والسعودية ودول الخليج الأخرى لا يمكن فصله عن الثورات السياسية في الأجزاء الأخرى من العالم العربي، فالتوترات مع الولايات المتحدة والعوامل الأخرى تدفع إلى خليط من المخاوف الأمنية في المنطقة، فيما يراه البعض على أنه لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد لا قواعد فيها ويبدو أن القطع دائما تتحرك بمفردها ولكن على كل قوة إقليمية أن تأخذ دورها في تلك اللعبة.
فالسعودية ودول الخليج ترى الربيع العربي بصورة مختلفة عن إيران؛ فإيران ترى أن ثورات الربيع العربي قد أفادتها، فبالرغم من أنها ربما تواجه تحديًا أكبر من الجماعات السنية التي تعتبرها متطرفة، إلا أنها أصبح لديها فرصا أكبر في العراق وسوريا ولبنان، فلم تعد تواجه مصر كدولة كبرى ومعادية لها كما كان إبان مبارك، كما أصبح لديها فرصا أكبر لاستغلال الشيعة في الخليج العربي واليمن.
. وإذا كانت مقدمات الحرب غير متشكلة لدى الطرف الأمريكي، فالواضح أن الطرف الإيراني يذهب بدوره أيضا إلى الابتعاد عن الصدام والمواجهة من خلال لجوئه إلى سياسة "سحب الذرائع". وأكثر ما تجلى ذلك، عبر إقفال مكاتب قلب الدين حكمتيار في طهران، وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الإيرانية الأفغانية الباكستانية، والإيحاء بإمكانية طرد حكمتيار من إيران إذا تجاوز حدود الضيافة مثلما أشار وزير الداخلية موسوي لاري، وكذلك عبر الاعتقالات التي شنتها السلطات الأمنية الإيرانية وأسفرت عن اعتقال 300 شخص مشتبه بانتماء بعضهم إلى تنظيمي "القاعدة" و"طالبان".
أن أزمة الملف النووي الإيراني تحولت إلي محور رئيسي في التفاعلات الداخلية الإيرانية في السنوات الأخيرة، بل إنها تعد كذلك أحد أهم آليات الانقسام والفرز بين القوي السياسية، خصوصاً داخل تيار المحافظين الأصوليين الذين سيطروا علي مراكز صنع القرار الرئيسية في الدولة، أن التداعيات التي فرضتها تلك الأزمة كانت أحد الأسباب الرئيسية في وصول شخصية معتدلة معروفة بسعيها إلى الانفتاح علي الخارج مثل الدكتور حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية، وهو ما دفع حكومة الرئيس حسن روحاني إلى البدء في حملة دعائية داخل إيران للترويج لما أسمته "المكاسب" التي حققتها إيران من خلال الاتفاق بعد توقيعه مباشرة، حيث استهدفت هذه الحملة المؤسسات السياسية والدينية النافذة في الدولة، فضلاً عن الرأي العام الإيراني، وذلك استباقاً لأية انتقادات يمكن أن توجهها تلك المؤسسات للاتفاق النووي مع الغرب أن جهود الرئيس روحاني حظيت بدعم واضح من جانب المرشد خامنئي، الذي وجّه خطاباً للرئيس أعلن فيه موافقته علي نتائج الانتخابات.
 أن هناك العديد من الانتقادات تم توجيهها إلى الحكومة الإيرانية، ومنها اعتبار الاتفاق الأخير يحرم إيران من برنامجها النووي السلمي فيما يمكن لإسرائيل استخدام القنبلة النووية، ويفقد إيران زمام المبادرة في المفاوضات، في إشارة إلي أن الغرب نجح في فرض خيارات ضيقة أمام المفاوض الإيراني بشكل أفقده حرية الحركة وهامش المناورة الذي كان من الممكن أن يؤدي إلي نتائج أكثر إيجابية، كما قلل خصوم الرئيس روحاني من تأثيرات الاتفاق النووي الجديد علي الاقتصاد الإيراني، خصوصاً أن إجمالي ما سيعود علي إيران من عوائد مالية لا يتعدى 7 مليار دولار، في ظل الإبقاء علي مستويات تصدير النفط الحالية التي تمثل حوالي 60% مقارنة بعام 2011، وعدم الإفراج عن جزء كبير من الأموال المجمدة.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية