الدكتور عادل عامر
الدولة الديمقراطية هي تطبيق للفكرة الديمقراطية بموجبها ينشئ البشر لأنفسهم إطارًا سياسيًّا يتيح لكل فرد تحقيق حقوقه وحريته بأفضل وأكمل طريقة ممكنة. في إطار هذا الدور يتعين على الدولة الديمقراطية أن تعمل على تحقيق قيمتي الحرية والمساواة على حد سواء: على الدولة أن تهتم بالفرد وأن تضمن حرّيات وحقوق كل فرد وفرد فيها وبذلك تتيح تطبيق قيمة الحرية . بالإضافة إلى ذلك على الدولة أن تضمن سلامة وجودة حياة جميع الأفراد الذين يكوّنون المجتمع فيها وبذلك تتيح تطبيق قيمة المساواة . في المجال القانوني – القضائي وفي المجال السياسي- قيمتا الحرية والمساواة تكملان بعضهما البعض. عندما نفحص معاني الحرية والمساواة في المجال الاجتماعي - الاقتصادي نكتشف وجود تصادم معين بين هاتين القيمتين. يؤثر هذا التصادم على طرق تطبيق هذه القيم في الدول الديمقراطية المختلفة. الحرية الاقتصادية - الاجتماعية هي حرية الفرد في القيام بكل ما هو صحيح بالنسبة له لكي يحسن وضعه الاقتصادي ومكانته الاجتماعية دون قيد أو تدخل في شؤونه. بناء على ذلك، الدولة بإمكانها أن تتدخل في شؤونه الاقتصادية الاجتماعية بدرجة قليلة جدًّا وفقط حينما يكن التدخل ضروريًّا لأداء الإطار السياسي (جباية ضرائب، لأغراض الأمن مثلًا) وللوجود الأساسي للفرد. المساواة الاقتصادية الاجتماعية تعني أن لكل إنسان توجد فرصة مساوية لفرصة الآخر ليتقدم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ أي أن لكل شخص الحق في الاستفادة من تكافؤ الفرص في المجال الاجتماعي - الاقتصادي. المفهوم الأساسي بالنسبة للدولة هو أن عليها التدخل لضمان هذه المساواة بين مواطنيها.
تبرز قضية المرأة في المجتمع العربي كأحد المقدمات الأساسية في وجه ثقافة الديمقراطية، ويمثل فقدان المساواة السياسية بين المرأة والرجل إحدى المشكلات المركزية لقضية الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي.
فالموروثات الثقافية العربية مشبعة بالمفاهيم والمعتقدات التي تسوّغ حرمان المرأة دورها الاجتماعي، وتشرع التمييز الواسع بينها وبين الرجل.
ورغم أن نضال المرأة العربية حقق مكاسب هامة في كسر هذه المفاهيم واكتساب بعض الحقوق التي لا تزال في حدها الأدنى، بينما لا تزال شريحة واسعة من النساء في المجتمعات العربية ترى ضرورة التزام تلك الموروثات والحفاظ عليها، وهو أمر لا يصب في صالح النضال الديمقراطي للمرأة.
وتتغذى هذه الموروثات من معتقدات دينية تحملها نصوص صريحة في تمييزها لغير صالح المرأة، فتكتسب هذه النصوص قوة قدسية وشرعية تصعب مخالفتها. فالخطاب الديني يرفض في أجزاء واسعة منه، النظر إلى قضية المرأة على أنها قضية اجتماعية في الأساس، ويرفض في المقابل قراءة النص الديني عبر ارتباطه بظروف تاريخية تغيرت خلال القرون المتتالية من الزمن، وتالياً لم تعد صالحة لعصرنا، وتتفاقم هذه النظرة بتقديم النظام الاجتماعي العربي لنفسه في صيغة ذكورية، فيصعب عليه أن يرى في غياب المساواة بين الرجل والمرأة غياباً لمبدأ المساواة في المجتمع كله.
وهكذا تواجه المرأة في المجتمعات العربية منظومة الإرث الاجتماعي والفكر الديني المتأصلة في بنية المجتمعات العربية، وتتغذى المنظومة الدينية من تاريخ عريق لا يقتصر على التاريخ الإسلامي بل يضرب عميقاً في المسيحية واليهودية، وتتفاوت المفاهيم الدينية في تطرفها واعتدالها ولكن تحتفظ بقواسم مشتركة. وترى في جوهرها حلولاً لمشكلات الإنسان والدولة والمجتمع، وأن التعددية والاختلاف وقبول الرأي الآخر قضايا قد تشكل خطراً على التوحيد الشامل ووحدة الأمة. كما ترى في الديمقراطية جزءاً من مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية على الحضارة العربية.
وهذه إشكالية كبيرة في عملية الغياب الديمقراطي لأنه لا يوجد فصل بين الدين والدولة.
وللعلم والثقافة أهمية خاصة في تطور الديمقراطية، ولا تعتبر الأمية أبداً أرضاً مساعدة لذلك، وكما هو معروف فإن نسبة الأمية في العالم العربي هي أعلى نسبة قياساً إلى مناطق جغرافية أخرى في العالم. وتنعكس أزمة الثقافة هذه على الفكر السائد باتجاهين: الأول يحض على العدالة والمساواة وهو الوجه الأضعف، بينما الوجه الآخر يرفض المس بالعادات والتقاليد والثقافة الدينية التي تصب إجمالاً في إطار الوجه السلبي.. وهنا غلبة الفكر الغيبي وضعف الفكر العقلاني. فالديمقراطية هي نتاج لمشروع ثقافي عميق يحتاج إلى زمن ومراحل ليصبح راسخاً في العقل الاجتماعي والسياسي لأي مجتمع. والديمقراطية بحاجة إلى تثقيف وتفعيل دور الأحزاب والنقابات والنظام القانوني والقضائي ووسائل الإعلام المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني والمناهج الدراسية. وهي مؤسسات ضرورية لإنجاح العملية الديمقراطية.
ويميل اقتصاد السوق الاجتماعي إلى الفكر الاقتصادي الكلاسيكي مع بعض التعديلات التي جعلته يُصنف كليبرالية جديدة تجمع بين الكلاسيكية الليبرالية وبين العناصر الإدارية والاجتماعية للدولة المتحكمة في الاقتصاد. ولا يركز هذا المنهج على الجوانب الاقتصادية فحسب، وإنما يهتم أيضاً بالحرية والعدالة الاجتماعية، بمعنى حرية شخصية في ظل مسئولية اجتماعية، حيث تعتبر الحرية شرطاً لازماً لتمكين الفرد من تحمل المسؤولية.
وقد عاد اقتصاد السوق الاجتماعي يستقطب اهتماماً متزايداً من الباحثين وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي على المستوى الإقليمي والعالمي، بعد أن أدركت الدول أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به للموازنة بين الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية. فهذا المنهج الذي يجمع بين دور الدولة الاقتصادي ودور القطاع الخاص لا يهتم بحرية الأسواق فحسب بل الأهم كفاءتها، مع التأكيد على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية واجراءتها، إذ يقود فشل الدولة في تأدية دورها الاقتصادي والاجتماعي إلى عدم استقرار سياسي، فضلاً عن أن تحقيق التوازن بين الأدوار الاقتصادية والاجتماعية أمر مطلوب وهام لتوفير البيئة اللازمة للتنمية والاستثمار.
فعقب الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين، أحدهما يتبنى اقتصاد السوق الرأسمالي والآخر يعتمد التخطيط المركزي تسيطر الدولة فيه على الإنتاج وأدواته، لم يبرز خيارٌ آخر، وإن كانت محاولات للجمع بين أفضل التطبيقات في المدرستين ظهرت على استحياء هنا وهناك. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فرض النموذج الرأسمالي نفسه على الجميع، رغم اختلاف التوجهات السياسية من بلد إلى آخر. وأصبح النقاش منذ ذلك الوقت، يدور حول المقارنة بين النموذج الأكثر ليبرالية أو النموذج المحافظ. وعاد بروز اقتصاد السوق الاجتماعي كنظام مفتوح ومرن يمكن تعديله وفقاً للظروف في مختلف البلدان. فنظام اقتصاد السوق الاجتماعي لا يمثل نقطة ثابتة على مقياس الأنظمة الاقتصادية، بل هو نطاق يتحرك إلى اليسار أو إلى اليمين وفقاً للاحتياجات والظروف. وتصبح أهم سمة لاقتصاد السوق الاجتماعي أنه نظام واحد يقدم كفاءة اقتصادية، وعدالة اجتماعية، وحماية بيئية.
ويعتبر العامل المشترك والحاسم بين حيثيات الاقتصاد الرأسمالي بشقيه الكلاسيكي الليبرالي والكينيزي وبين اقتصاد السوق الاجتماعي هو دور الدولة، والذي إما أن يكون حيادياً كما نادت به الليبرالية أو تدخلياً وفعالاً كما رأت الكينيزية. والمقصود بالحيادية هنا هو حصر أنشطة الدولة في إستتاب الأمن وضمان حرية السوق وتشجيع الاستثمار والمنافسة والابتعاد عن ممارسة الأنشطة التجارية والإنتاجية، في حين تتولى قوى السوق تصحيح أية إختلالات خاصة ما يتعلق بالبطالة والتضخم. وفي الحالتين، فإن الظروف الاقتصادية من كساد أو نمو تشكل المحدد الرئيس لدور الدولة الاقتصادي، الأمر الذي يجعل اقتصاد السوق الاجتماعي إجمالاً لا يبتعد كثيراً عن النظرية الرأسمالية الأم.
ويعود الفضل في نجاح الاقتصاديات التي تبنت اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وكذلك قدرتها على امتصاص الصدمات والأزمات الداخلية والخارجية إلى مجموعة المرتكزات والمقومات الفلسفية والقانونية والمؤسسية التي استند عليها بنائها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ لا بد من ارتكاز اقتصاد السوق الاجتماعي على دولة مؤسسات، وسيادة القانون، ونظام ديمقراطي يضمن توافق سياسي ومجتمعي يحافظ على حقوق ومصالح الفئات الاجتماعية المختلفة تجاه السياسات الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً الاتحادات والنقابات، وأخيراً جدوى وفاعلية المشروعات الاقتصادية. وتعتبر الشراكة الاجتماعية بين النقابات ومؤسسات الأعمال عنصراً أساسياً لتنظيم سوق العمل وتفعيل ديناميكيات الاستثمار وإقامة المشاريع وتوفير معدلات توظيف عالية وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية، والتي تمثل جميعها متطلبات لاقتصاد السوق الاجتماعي وأحد مزاياه الكبيرة من خلال تحقيق نمو مستدام في إطار سياسات اجتماعية تعيد توزيع الثروة.
وتنقسم المقومات الأساسية الداعمة لاقتصاد السوق الاجتماعي إلى مقومات متعلقة بمسئولية الدولة، وتلك المرتبطة ببيئة النشاط الاقتصادي، وكذلك مقومات الجانب الثقافي والإعلامي. وتتحدد مسئوليات الدولة في جوانب عديدة أولها الجانب التشريعي والقانوني والذي يتمثل في إصدار القوانين والأنظمة. كما تتحمل الدولة في الجانب السياسي والاجتماعي القيام بتعزيز قيم واتجاهات إيجابية في المجتمع أهمها احترام حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية، والمشاركة الفردية في صنع القرار السياسي، وتوفير الخدمات الاجتماعية لصيانة التوازن الاجتماعي، وتشجيع المسئولية الذاتية لأفراد المجتمع، بالإضافة إلى التدخل عندما لا تتمكن المبادرات الخاصة أو التكافل والتضامن من معالجة المشاكل والصعوبات التي يواجهها الاقتصاد أو المجتمع. أما في الجانب الاقتصادي فيستدعي اهتمام الدولة بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في التزام نظام مالي وضريبي كفؤ وفعال يوفر للدولة الموارد الكافية للقيام بواجباتها، وتبني سياسة نقدية ومالية تحقق الاستخدام الأمثل للموارد وتوفر الاستقرار الاقتصادي واستقرار الأسعار وسعر الصرف، وتطبيق نظام للتنظيم والمراقبة في ظل حرية الأسواق وآلية الثمن، والتصدي للمخالفات وتصحيح التشوهات، وتوفير السلع العامة لاسيما في التعليم والتدريب والصحة والنقل والبنية التحتية، باعتبار الإنفاق الاجتماعي استثماراً في رأس المال البشري ويعزز النمو الاقتصادي، فضلاً عن تشجيع المنافسة وحمايتها وتقديم الحوافز ودعم الابتكار لتطوير النشاط الاقتصادي ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي في هذه الجوانب.
وتستند تلك المسئوليات إلى نظام حكم رشيد يتمثل في سيادة القانون من خلال تطبيق النظام والقانون على كل أفراد المجتمع، وتعزيز استقلالية القضاء. كما يركز النظام على دعم استقلالية البنى المركزية لنقابات العمال وأرباب العمل والاهتمام بدور الغرف التجارية وتأكيد دورها الرقابي، وبالتالي ترجمة ذلك في تفويض وظائف الرقابة على القطاع المصرفي والتركز الاقتصادي إلى منظمات مهنية مستقلة. فالإصلاح أو التكيف الاقتصادي بصورة عامة، إنما يشير إلى عملية توجيه ومواءمة للاقتصاد الوطني، وفقاً لأهداف مستجدة أو موضوعة سلفاً، لتخفيف أو تجنب الآثار السلبية المتولدة عن طبيعة الاقتصادي الدولي، والتي (عملية التوجيه والمواءمة) تشتمل على أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية. وإزاء إيجابية مضمون هذه العملية، فلا بد وان تكون عملية مستمرة تأخذ بها الدول على اختلافها، بما فيها الدول المتقدمة. وبرغم أن هذا المفهوم يمتد ليشمل سياسات التكيف الهيكلي التي يقوم عليها الصندوق والبنك إلا أنه لا يقتصر عليها. ويترتب على هذه الملاحظة نتائج مهمة تتمثل بصورة رئيسية في حجم الآثار الاجتماعية والسياسية وإمكانية التعامل معها، إضافة إلى مدى إمكانية تحقيق الأهداف المتوخاة على الصعيد الاقتصادي، بناء على الأخذ بأحد هذين المدخلين (مدخل الصندوق والبنك، والمدخل المستقل).
ففي حين، يرتبط تطبيق سياسات التكيف الهيكلي بالدول النامية التي تواجه أزمات اقتصادية ترتب عليها العجز عن سداد مديونيتها الخارجية، بحيث اقتضت إعادة ثقة الدائنين بها، لجدولة ديونها والحصول على تمويل جديد، اللجوء إلى الصندوق والبنك للحصول على شهادة بسلامة أوضاعها الاقتصادية (Seal of Approval)، بعد التزام هذه الدول بما يسمى بـ "المشروطية" (Conditionality)، والتي هي عبارة عن اتفاق بين الصندوق والبنك من جهة والدولة المدينة من جهة أخرى، يتم بموجبه ربط استمرار التدفقات المالية الخارجية، من منح وقروض، بإجراء تغييرات في السياسة الاقتصادية للدولة المدينة. ويعبر عن هذا الاتفاق من خلال ما يعرف بـ "خطاب النوايا" الصادر عن حكومة الدولة المعنية، بشكل سنوي، متضمناً تحديداً لسياسات التكيف واحتياجات الدولة من التمويل الخارجي والتمويل المتاح من الصندوق والبنك وهيئاته التابعة.وعلى الرغم من أن خطاب النوايا يصدر في النهاية عن حكومة الدولة التي تود الالتزام بسياسات التكيف الهيكلي، إلا أن هذا الخطاب في الواقع ما هو إلا حصيلة مفاوضات بين هذه الحكومة وكل من الصندوق والبنك، تتخذ في النهاية شكل تعهدات ملزمة للحكومة المعنية، تستدعي العقاب المتمثل في وقف التمويل الخارجي (مساعدات وقروض)، في حال عدم الوفاء بها.
أما في حالة "المدخل المستقل في الإصلاح الاقتصادي"، فتبدو السمة الرئيسية لهذا المدخل في قدرة الدولة على توفير التمويل الذاتي، أو من مصادر أخرى غير الصندوق والبنك. ومن ثم فإن هذا المدخل غالباً ما يرتبط في تطبيقه بالدول الصناعية والنفطية إلى حد ما، بهدف مواجهة حالات الركود الاقتصادي أو مواكبة التطورات الاقتصادية في الغالب ، وإن كان ذلك لا يعني عدم لجوء بعض الدول إليه لمواجهة أزمة مديونية خارجية، طالما كانت الدولة قادرة على توفير التمويل دون اللجوء إلى الصندوق والبنك.
يترتب على الاستقلالية نتيجة مهمة تتمثل في أنه، وبعكس الحال في سياسات التكيف الهيكلي الموصى بها من الصندوق والبنك، لا يخضع التكيف ذو المدخل المستقل لنموذج واحد، بحيث تراعي الدولة، في النموذج المطبق، ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يترتب عليه نتيجة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في قدرة الدولة، في حالة المدخل المستقل، على ضبط الآثار السلبية لعملية الإصلاح الاقتصادي، وخصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. ومن المحسوم في عالم اليوم أن مفهوم العدالة الاجتماعية يستمد مضمونه الأصيل من الاجتهادات التي تعمل على تأمين الجواب على الأسئلة التي يطرحها كل مجتمع على حدة من جهة، ومن جهة أخرى من اندراجه ضمن الاجتهاد الكوني المتحصل من تجارب وطموحات الشعوب التي أصبحت مصائرها تتوحد باطراد ضمن ديناميات العولمة المتفاعلة، الذي يبقى الخيار الصحيح والمقبول حيالها هو الاندماج فيها والسعي إلى استثمار ما تتيحه من إمكانيات وفق جدلية تأثير وتأثر في عالم تغيرت معطياته وشروط الفعل فيه. ويترتب عن ذلك أن إشكالية ابتكار المضامين المناسبة والسياسات الناجعة لتحقيق العدالة الاجتماعية في بلادنا توجد في صلب المسؤولية الحزبية التي يتحملها حزب الأصالة والمعاصرة، في سياق عالمي غير مستقر، تظهر فيه القوى العظمى، أقدر من غيرها على الاستفادة من الفرص التي تتيحها العولمة، وتتصرف بما يحفظ مصالحها الآنية والإستراتيجية بالأساس، مما يعرض بقية البلدان للأخطار المترتبة عن السياسات الضيقة الأفق، وعلى رأس تلك الأخطار: تعميق الهشاشة الاجتماعية لا أن أزمات نمو الرأسمالية، واعتماد الربح والإنتاجية كأهداف حيوية من طرف أرباب العمل، أدى إلى تأزم أوضاع الطبقة العاملة التي كانت تنتج الثروة دون أن تستفيد من نتائجها ، فكثرت الصراعات الإجتماعية، ولجأ العمال إلى كل الأساليب دفاعا عن مصالحهم من خلال القيام بالإضرابات والإحتجاجات واحتلال المعامل. وكانت هذه النضالات في بدايتها عشوائية قبل أن تتأطر داخل الإتحادات العمالية وداخل النقابات ، في هذه الأجواء ظهر الفكر الإشتراكي لكي يدعو إلى إقامة نظام سياسي بديل. وقد مر الفكر الإشتراكي من مراحل مختلفة، قبل أن يصل إلى ما سمي بالإشتراكية العلمية ،على يد المفكرين الألمانين ، مثل كارل ماركس (صاحب كتاب الرأسمال)و غيره.
غير أن التاريخ لم يتطور حسب ما تنبأ به المفكرون الإشتراكيون ، فبدل الدول الصناعية المتطورة ، ظهرت التجربة الأولى في دولة أقل تطورا آنذاك وهي روسيا على يد حزب فلاديمير لينين الحزب البولشفي الشيوعي، ثم في الصين الفلاحية فيما بعد على يد الحزب الشيوعي الذي قاده ماو تسي تونغ، واتسمت هذه التجارب بنوع من الصراع الحاد وغياب الديمقراطية واعتبار المخالفين أعداء الثورة ،وكان النظام السياسي شموليا يحكمه الحزب الوحيد الممسك بيد من حديد على مقاليد الأمور، بل إن العديد من التجارب الإشتراكية كانت مفروضة بواسطة التدخل الخارجي ،كما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية من خلال التدخل الروسي في دول أوروبا الشرقية.غير أن هذا الوضع المختنق والمفروض ، سينهار بسرعة بعد أقل من أربعة عقود( تحولات أواخر الثمانينيات) وستعود أغلب الدول إلى الإختيار الليبرالي الديمقراطي وإلى اقتصاد السوق . أي لا حاجة إلى اليقين الواضح الفوري، كذلك لا تكفي الإمكانية النظرية فالمطلوب هو الأدلة الحقيقية والتقويم يجب أن يقوم على الوقائع المعروفة بما فيها تجارب الماضي. يجب عدم الاكتفاء بالفرضيات والتخوفات، ولا يكفي الزعم بإمكانية فعله للمس بالأمن العام أيضا. الوضع على أرض الواقع يجب أن يشير إلى خطر فعلي محتمل مع إمكانية الموازنة بين مدى الاحتمال ومدى الخطورة في الإصابة.
مثال: الحق في الحياة والأمن مقابل حرية التظاهر.
فإنه يمكن إلغاء أو تقييد حرية التظاهر والخروج في مسيرة لاعتبارات سلامة الجمهور. لأن ممكن أن تؤدي مظاهرة معينة إلى تواجد جمهور معادٍ لها مما يؤدي إلى ضرر ومس بحياة وسلامة الآخرين. لذلك في حالات معينة يوجد إمكانية بإلغاء مظاهرة إذا كان هناك احتمال لإصابات وذلك بناء على ما حدث بالماضي. لأنه لا يجوز لحق التظاهر أن يتحول إلى حمام دماء لأن المس العنيف بالنظام العام قد
يؤدي إلى المس بالنسيج الاجتماعي ونظام الحكم الديمقراطي.
ولكن على الشرطة أن يكون حلها الأخير هو إلغاء مظاهرة أو مسيرة. فحين تتجه النية إلى إلغاء أو تقليص حق أساسي للإنسان قانونيا يجب على السلطة أن تختار أقل الوسائل تطرفا. ن التضامن إحساس بالمسؤولية المتبادلة اتجاه الجماعة، ويتجلى في تقديم الخدمات للآخرين دون مقابل ،كما أنه انخراط فعلي في بناء قيم الجماعة، وتشكيل الهوية الجماعية ، فالتضامن ليس مجرد إحساس فردي عاطفي أو عمل خيري عابر ،بل هو قناعة فكرية وسياسية نتجاوز من خلالها فرديتنا لننفتح على الجماعة .
لقد عملت أغلب الأنظمة الديمقراطية الإجتماعية ،على تحويل الحس التضامني إلى مؤسسات وبنيات اجتماعية ،تعمل على عقلنة التضامن وتطويره كي يسهم في الحماية الإجتماعية، فالتضامن المؤسسي ليس مجرد عمل خيري فردي اختياري محدود في الزمن، بل هو قناعة سياسية دائمة .
والتضامن الفعلي في المجتمعات الديمقراطية مرتبط بالحرية والمساواة والتكافل بين جميع طبقات المجتمع ، كما أنه مرهون بإسهام كل من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في تنزيل البرنامج التضامني على أرض الواقع بنوع من الإنسجام والتناغم ، لكل هذا فإن بناء مجتمع متضامن ومتعاون يتطلب مستوى عالى من النضج ،وإرادة لدى المواطنين، للمساهمة التلقائية في مساعدة من هم في حاجة، والسعي إلى اقتسام الثروة الوطنية بشكل عادل. لقد تطورت أشكال التضامن تاريخيا مع تطور الحضارة ، فظهرت التأمينات بمختلف صيغها والتعويض عن البطالة والمرض والعجز والحوادث ، وأنظمة التقاعد، كما ظهر الإقتصاد التضامني الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الجماعية للأعضاء في إطار تكامل وانسجام بدل التنافس المميز لنظام السوق ،ويشمل التعاونيات والتعاضد يات ،وكل المؤسسات التي تقوم على أساس المساواة والتضامن بين الأعضاء ،وعلى نوع من الإستقلالية ،وتؤطرها قوانين خاصة ، ليس هدفها الربح بل حل بعض الإشكالات الإجتماعية وتخفيف الأعباء على الأعضاء بشكل تضامني وتشاركي لأن المصلحة العامة تسمو على المصالح الخاصة .وتأتي التعاونيات في مقدمة هذه المؤسسات خاصة في مجالات الفلاحة والصناعة التقليدية حيث تسهر الدولة على تشجيعها عبر الإعانات، والإعفاءات الضريبية والقروض، وهناك التعاضديات خاصة في المجال الصحي والتي تتأسس على مساهمات الأعضاء والتضامن لتخفيف أعباء العلاجات ...لقد أصبح الإقتصاد التضامني مشغلا مهما لليد العاملة بالإضافة إلى مساهمته في حل العديد من المعضلات الإجتماعية، ووضع أسس تنمية مستدامة .
كما يتميزالنموذج الديمقراطي الإجتماعي بتبني فلسفة الحماية الإجتماعية، القائمة على وضع آليات دائمة لتفادي كل المشاكل الناتجة عن طوارئ الحياة ، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض دخل المواطنين (في حالات فقدان الشغل ،أو المرض أو الإعاقة أو الشيخوخة أو التقاعد أومختلف التحملات العائلية...) فنظام الحماية الإجتماعية يخفف الأعباء المادية عن الأسر المحدودة الدخل ويقلص التفاوت الإجتماعي أمام المخاطر، ويضمن حدا أدنى من الدخل الذي يسمح بالإندماج الإجتماعي. وتسهر منظمات الضمان الإجتماعي على تصريف سياسة الدولة في مجال الحماية الإجتماعية ، وإذا كانت كل الدول الأوروبية قد أقامت أنظمة للحماية الإجتماعية ، فإن الدول التي تبنت الإختيار الديمقراطي الإجتماعي ( شمال أوروبا وألمانيا كمثال) تميزت بإقامة أنظمة نموذجية ومتطورة تحمي المواطن من أي خوف على مستقبله ،في ظل الأزمات والتقلبات التي يشهدها الإقتصاد الدولي بل إن بعض النماذج وصلت إلى مستوى تحقيق نوع من الرفاه الإجتماعي الذي عجزت عنه الأنظمة الأخرى( مساعدات مهمة في مجالات السكن والصحة والتعليم المجاني وكل أشكال التأمين ضد فقدان العمل وضد العجز ، وضمانات الشيخوخة والتقاعد ورعاية ذوي الإحتياجات الخاصة ..)وإذا كانت الدولة هي الراعي الأساسي لنظام الحماية الإجتماعية من خلال مساهماتها المادية المهمة ،فإن القطاع الخاص والجماعات المحلية لها مساهمات متميزة لدعم هذا النظام وإنجاحه جهويا ومحليا،كما أن أرباب العمل،و جميع الفئات النشيطة تساهم عبر أقساط تقتطع من مدخولها ومختلف ضرائبها لضمان استمرارية هذا النظام الذي يعكس أرقى أشكال التضامن الإجتماعي.
إن التضامن لا يتطور إلا مع الوعي بالمصالح المشتركة بين أبناء الوطن الواحد ( أغنياء وفقراء ) ومن شأن التكامل والإنسجام أن يعطيا قوة لاحمة للمجتمع ،خاصة إذا تم ترجمة كل ذلك إلى اختيار سياسي واضح المعالم، وإلى مؤسسات قائمة الذات، تجسد تلك القناعة السياسية .
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
الدولة الديمقراطية هي تطبيق للفكرة الديمقراطية بموجبها ينشئ البشر لأنفسهم إطارًا سياسيًّا يتيح لكل فرد تحقيق حقوقه وحريته بأفضل وأكمل طريقة ممكنة. في إطار هذا الدور يتعين على الدولة الديمقراطية أن تعمل على تحقيق قيمتي الحرية والمساواة على حد سواء: على الدولة أن تهتم بالفرد وأن تضمن حرّيات وحقوق كل فرد وفرد فيها وبذلك تتيح تطبيق قيمة الحرية . بالإضافة إلى ذلك على الدولة أن تضمن سلامة وجودة حياة جميع الأفراد الذين يكوّنون المجتمع فيها وبذلك تتيح تطبيق قيمة المساواة . في المجال القانوني – القضائي وفي المجال السياسي- قيمتا الحرية والمساواة تكملان بعضهما البعض. عندما نفحص معاني الحرية والمساواة في المجال الاجتماعي - الاقتصادي نكتشف وجود تصادم معين بين هاتين القيمتين. يؤثر هذا التصادم على طرق تطبيق هذه القيم في الدول الديمقراطية المختلفة. الحرية الاقتصادية - الاجتماعية هي حرية الفرد في القيام بكل ما هو صحيح بالنسبة له لكي يحسن وضعه الاقتصادي ومكانته الاجتماعية دون قيد أو تدخل في شؤونه. بناء على ذلك، الدولة بإمكانها أن تتدخل في شؤونه الاقتصادية الاجتماعية بدرجة قليلة جدًّا وفقط حينما يكن التدخل ضروريًّا لأداء الإطار السياسي (جباية ضرائب، لأغراض الأمن مثلًا) وللوجود الأساسي للفرد. المساواة الاقتصادية الاجتماعية تعني أن لكل إنسان توجد فرصة مساوية لفرصة الآخر ليتقدم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ أي أن لكل شخص الحق في الاستفادة من تكافؤ الفرص في المجال الاجتماعي - الاقتصادي. المفهوم الأساسي بالنسبة للدولة هو أن عليها التدخل لضمان هذه المساواة بين مواطنيها.
تبرز قضية المرأة في المجتمع العربي كأحد المقدمات الأساسية في وجه ثقافة الديمقراطية، ويمثل فقدان المساواة السياسية بين المرأة والرجل إحدى المشكلات المركزية لقضية الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي.
فالموروثات الثقافية العربية مشبعة بالمفاهيم والمعتقدات التي تسوّغ حرمان المرأة دورها الاجتماعي، وتشرع التمييز الواسع بينها وبين الرجل.
ورغم أن نضال المرأة العربية حقق مكاسب هامة في كسر هذه المفاهيم واكتساب بعض الحقوق التي لا تزال في حدها الأدنى، بينما لا تزال شريحة واسعة من النساء في المجتمعات العربية ترى ضرورة التزام تلك الموروثات والحفاظ عليها، وهو أمر لا يصب في صالح النضال الديمقراطي للمرأة.
وتتغذى هذه الموروثات من معتقدات دينية تحملها نصوص صريحة في تمييزها لغير صالح المرأة، فتكتسب هذه النصوص قوة قدسية وشرعية تصعب مخالفتها. فالخطاب الديني يرفض في أجزاء واسعة منه، النظر إلى قضية المرأة على أنها قضية اجتماعية في الأساس، ويرفض في المقابل قراءة النص الديني عبر ارتباطه بظروف تاريخية تغيرت خلال القرون المتتالية من الزمن، وتالياً لم تعد صالحة لعصرنا، وتتفاقم هذه النظرة بتقديم النظام الاجتماعي العربي لنفسه في صيغة ذكورية، فيصعب عليه أن يرى في غياب المساواة بين الرجل والمرأة غياباً لمبدأ المساواة في المجتمع كله.
وهكذا تواجه المرأة في المجتمعات العربية منظومة الإرث الاجتماعي والفكر الديني المتأصلة في بنية المجتمعات العربية، وتتغذى المنظومة الدينية من تاريخ عريق لا يقتصر على التاريخ الإسلامي بل يضرب عميقاً في المسيحية واليهودية، وتتفاوت المفاهيم الدينية في تطرفها واعتدالها ولكن تحتفظ بقواسم مشتركة. وترى في جوهرها حلولاً لمشكلات الإنسان والدولة والمجتمع، وأن التعددية والاختلاف وقبول الرأي الآخر قضايا قد تشكل خطراً على التوحيد الشامل ووحدة الأمة. كما ترى في الديمقراطية جزءاً من مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية على الحضارة العربية.
وهذه إشكالية كبيرة في عملية الغياب الديمقراطي لأنه لا يوجد فصل بين الدين والدولة.
وللعلم والثقافة أهمية خاصة في تطور الديمقراطية، ولا تعتبر الأمية أبداً أرضاً مساعدة لذلك، وكما هو معروف فإن نسبة الأمية في العالم العربي هي أعلى نسبة قياساً إلى مناطق جغرافية أخرى في العالم. وتنعكس أزمة الثقافة هذه على الفكر السائد باتجاهين: الأول يحض على العدالة والمساواة وهو الوجه الأضعف، بينما الوجه الآخر يرفض المس بالعادات والتقاليد والثقافة الدينية التي تصب إجمالاً في إطار الوجه السلبي.. وهنا غلبة الفكر الغيبي وضعف الفكر العقلاني. فالديمقراطية هي نتاج لمشروع ثقافي عميق يحتاج إلى زمن ومراحل ليصبح راسخاً في العقل الاجتماعي والسياسي لأي مجتمع. والديمقراطية بحاجة إلى تثقيف وتفعيل دور الأحزاب والنقابات والنظام القانوني والقضائي ووسائل الإعلام المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني والمناهج الدراسية. وهي مؤسسات ضرورية لإنجاح العملية الديمقراطية.
ويميل اقتصاد السوق الاجتماعي إلى الفكر الاقتصادي الكلاسيكي مع بعض التعديلات التي جعلته يُصنف كليبرالية جديدة تجمع بين الكلاسيكية الليبرالية وبين العناصر الإدارية والاجتماعية للدولة المتحكمة في الاقتصاد. ولا يركز هذا المنهج على الجوانب الاقتصادية فحسب، وإنما يهتم أيضاً بالحرية والعدالة الاجتماعية، بمعنى حرية شخصية في ظل مسئولية اجتماعية، حيث تعتبر الحرية شرطاً لازماً لتمكين الفرد من تحمل المسؤولية.
وقد عاد اقتصاد السوق الاجتماعي يستقطب اهتماماً متزايداً من الباحثين وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي على المستوى الإقليمي والعالمي، بعد أن أدركت الدول أهمية الدور الذي يجب أن تقوم به للموازنة بين الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية. فهذا المنهج الذي يجمع بين دور الدولة الاقتصادي ودور القطاع الخاص لا يهتم بحرية الأسواق فحسب بل الأهم كفاءتها، مع التأكيد على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية واجراءتها، إذ يقود فشل الدولة في تأدية دورها الاقتصادي والاجتماعي إلى عدم استقرار سياسي، فضلاً عن أن تحقيق التوازن بين الأدوار الاقتصادية والاجتماعية أمر مطلوب وهام لتوفير البيئة اللازمة للتنمية والاستثمار.
فعقب الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين، أحدهما يتبنى اقتصاد السوق الرأسمالي والآخر يعتمد التخطيط المركزي تسيطر الدولة فيه على الإنتاج وأدواته، لم يبرز خيارٌ آخر، وإن كانت محاولات للجمع بين أفضل التطبيقات في المدرستين ظهرت على استحياء هنا وهناك. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فرض النموذج الرأسمالي نفسه على الجميع، رغم اختلاف التوجهات السياسية من بلد إلى آخر. وأصبح النقاش منذ ذلك الوقت، يدور حول المقارنة بين النموذج الأكثر ليبرالية أو النموذج المحافظ. وعاد بروز اقتصاد السوق الاجتماعي كنظام مفتوح ومرن يمكن تعديله وفقاً للظروف في مختلف البلدان. فنظام اقتصاد السوق الاجتماعي لا يمثل نقطة ثابتة على مقياس الأنظمة الاقتصادية، بل هو نطاق يتحرك إلى اليسار أو إلى اليمين وفقاً للاحتياجات والظروف. وتصبح أهم سمة لاقتصاد السوق الاجتماعي أنه نظام واحد يقدم كفاءة اقتصادية، وعدالة اجتماعية، وحماية بيئية.
ويعتبر العامل المشترك والحاسم بين حيثيات الاقتصاد الرأسمالي بشقيه الكلاسيكي الليبرالي والكينيزي وبين اقتصاد السوق الاجتماعي هو دور الدولة، والذي إما أن يكون حيادياً كما نادت به الليبرالية أو تدخلياً وفعالاً كما رأت الكينيزية. والمقصود بالحيادية هنا هو حصر أنشطة الدولة في إستتاب الأمن وضمان حرية السوق وتشجيع الاستثمار والمنافسة والابتعاد عن ممارسة الأنشطة التجارية والإنتاجية، في حين تتولى قوى السوق تصحيح أية إختلالات خاصة ما يتعلق بالبطالة والتضخم. وفي الحالتين، فإن الظروف الاقتصادية من كساد أو نمو تشكل المحدد الرئيس لدور الدولة الاقتصادي، الأمر الذي يجعل اقتصاد السوق الاجتماعي إجمالاً لا يبتعد كثيراً عن النظرية الرأسمالية الأم.
ويعود الفضل في نجاح الاقتصاديات التي تبنت اقتصاد السوق الاجتماعي في تحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وكذلك قدرتها على امتصاص الصدمات والأزمات الداخلية والخارجية إلى مجموعة المرتكزات والمقومات الفلسفية والقانونية والمؤسسية التي استند عليها بنائها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ لا بد من ارتكاز اقتصاد السوق الاجتماعي على دولة مؤسسات، وسيادة القانون، ونظام ديمقراطي يضمن توافق سياسي ومجتمعي يحافظ على حقوق ومصالح الفئات الاجتماعية المختلفة تجاه السياسات الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً الاتحادات والنقابات، وأخيراً جدوى وفاعلية المشروعات الاقتصادية. وتعتبر الشراكة الاجتماعية بين النقابات ومؤسسات الأعمال عنصراً أساسياً لتنظيم سوق العمل وتفعيل ديناميكيات الاستثمار وإقامة المشاريع وتوفير معدلات توظيف عالية وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية، والتي تمثل جميعها متطلبات لاقتصاد السوق الاجتماعي وأحد مزاياه الكبيرة من خلال تحقيق نمو مستدام في إطار سياسات اجتماعية تعيد توزيع الثروة.
وتنقسم المقومات الأساسية الداعمة لاقتصاد السوق الاجتماعي إلى مقومات متعلقة بمسئولية الدولة، وتلك المرتبطة ببيئة النشاط الاقتصادي، وكذلك مقومات الجانب الثقافي والإعلامي. وتتحدد مسئوليات الدولة في جوانب عديدة أولها الجانب التشريعي والقانوني والذي يتمثل في إصدار القوانين والأنظمة. كما تتحمل الدولة في الجانب السياسي والاجتماعي القيام بتعزيز قيم واتجاهات إيجابية في المجتمع أهمها احترام حقوق الإنسان الفردية والاجتماعية، والمشاركة الفردية في صنع القرار السياسي، وتوفير الخدمات الاجتماعية لصيانة التوازن الاجتماعي، وتشجيع المسئولية الذاتية لأفراد المجتمع، بالإضافة إلى التدخل عندما لا تتمكن المبادرات الخاصة أو التكافل والتضامن من معالجة المشاكل والصعوبات التي يواجهها الاقتصاد أو المجتمع. أما في الجانب الاقتصادي فيستدعي اهتمام الدولة بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة في التزام نظام مالي وضريبي كفؤ وفعال يوفر للدولة الموارد الكافية للقيام بواجباتها، وتبني سياسة نقدية ومالية تحقق الاستخدام الأمثل للموارد وتوفر الاستقرار الاقتصادي واستقرار الأسعار وسعر الصرف، وتطبيق نظام للتنظيم والمراقبة في ظل حرية الأسواق وآلية الثمن، والتصدي للمخالفات وتصحيح التشوهات، وتوفير السلع العامة لاسيما في التعليم والتدريب والصحة والنقل والبنية التحتية، باعتبار الإنفاق الاجتماعي استثماراً في رأس المال البشري ويعزز النمو الاقتصادي، فضلاً عن تشجيع المنافسة وحمايتها وتقديم الحوافز ودعم الابتكار لتطوير النشاط الاقتصادي ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي في هذه الجوانب.
وتستند تلك المسئوليات إلى نظام حكم رشيد يتمثل في سيادة القانون من خلال تطبيق النظام والقانون على كل أفراد المجتمع، وتعزيز استقلالية القضاء. كما يركز النظام على دعم استقلالية البنى المركزية لنقابات العمال وأرباب العمل والاهتمام بدور الغرف التجارية وتأكيد دورها الرقابي، وبالتالي ترجمة ذلك في تفويض وظائف الرقابة على القطاع المصرفي والتركز الاقتصادي إلى منظمات مهنية مستقلة. فالإصلاح أو التكيف الاقتصادي بصورة عامة، إنما يشير إلى عملية توجيه ومواءمة للاقتصاد الوطني، وفقاً لأهداف مستجدة أو موضوعة سلفاً، لتخفيف أو تجنب الآثار السلبية المتولدة عن طبيعة الاقتصادي الدولي، والتي (عملية التوجيه والمواءمة) تشتمل على أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية. وإزاء إيجابية مضمون هذه العملية، فلا بد وان تكون عملية مستمرة تأخذ بها الدول على اختلافها، بما فيها الدول المتقدمة. وبرغم أن هذا المفهوم يمتد ليشمل سياسات التكيف الهيكلي التي يقوم عليها الصندوق والبنك إلا أنه لا يقتصر عليها. ويترتب على هذه الملاحظة نتائج مهمة تتمثل بصورة رئيسية في حجم الآثار الاجتماعية والسياسية وإمكانية التعامل معها، إضافة إلى مدى إمكانية تحقيق الأهداف المتوخاة على الصعيد الاقتصادي، بناء على الأخذ بأحد هذين المدخلين (مدخل الصندوق والبنك، والمدخل المستقل).
ففي حين، يرتبط تطبيق سياسات التكيف الهيكلي بالدول النامية التي تواجه أزمات اقتصادية ترتب عليها العجز عن سداد مديونيتها الخارجية، بحيث اقتضت إعادة ثقة الدائنين بها، لجدولة ديونها والحصول على تمويل جديد، اللجوء إلى الصندوق والبنك للحصول على شهادة بسلامة أوضاعها الاقتصادية (Seal of Approval)، بعد التزام هذه الدول بما يسمى بـ "المشروطية" (Conditionality)، والتي هي عبارة عن اتفاق بين الصندوق والبنك من جهة والدولة المدينة من جهة أخرى، يتم بموجبه ربط استمرار التدفقات المالية الخارجية، من منح وقروض، بإجراء تغييرات في السياسة الاقتصادية للدولة المدينة. ويعبر عن هذا الاتفاق من خلال ما يعرف بـ "خطاب النوايا" الصادر عن حكومة الدولة المعنية، بشكل سنوي، متضمناً تحديداً لسياسات التكيف واحتياجات الدولة من التمويل الخارجي والتمويل المتاح من الصندوق والبنك وهيئاته التابعة.وعلى الرغم من أن خطاب النوايا يصدر في النهاية عن حكومة الدولة التي تود الالتزام بسياسات التكيف الهيكلي، إلا أن هذا الخطاب في الواقع ما هو إلا حصيلة مفاوضات بين هذه الحكومة وكل من الصندوق والبنك، تتخذ في النهاية شكل تعهدات ملزمة للحكومة المعنية، تستدعي العقاب المتمثل في وقف التمويل الخارجي (مساعدات وقروض)، في حال عدم الوفاء بها.
أما في حالة "المدخل المستقل في الإصلاح الاقتصادي"، فتبدو السمة الرئيسية لهذا المدخل في قدرة الدولة على توفير التمويل الذاتي، أو من مصادر أخرى غير الصندوق والبنك. ومن ثم فإن هذا المدخل غالباً ما يرتبط في تطبيقه بالدول الصناعية والنفطية إلى حد ما، بهدف مواجهة حالات الركود الاقتصادي أو مواكبة التطورات الاقتصادية في الغالب ، وإن كان ذلك لا يعني عدم لجوء بعض الدول إليه لمواجهة أزمة مديونية خارجية، طالما كانت الدولة قادرة على توفير التمويل دون اللجوء إلى الصندوق والبنك.
يترتب على الاستقلالية نتيجة مهمة تتمثل في أنه، وبعكس الحال في سياسات التكيف الهيكلي الموصى بها من الصندوق والبنك، لا يخضع التكيف ذو المدخل المستقل لنموذج واحد، بحيث تراعي الدولة، في النموذج المطبق، ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يترتب عليه نتيجة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في قدرة الدولة، في حالة المدخل المستقل، على ضبط الآثار السلبية لعملية الإصلاح الاقتصادي، وخصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. ومن المحسوم في عالم اليوم أن مفهوم العدالة الاجتماعية يستمد مضمونه الأصيل من الاجتهادات التي تعمل على تأمين الجواب على الأسئلة التي يطرحها كل مجتمع على حدة من جهة، ومن جهة أخرى من اندراجه ضمن الاجتهاد الكوني المتحصل من تجارب وطموحات الشعوب التي أصبحت مصائرها تتوحد باطراد ضمن ديناميات العولمة المتفاعلة، الذي يبقى الخيار الصحيح والمقبول حيالها هو الاندماج فيها والسعي إلى استثمار ما تتيحه من إمكانيات وفق جدلية تأثير وتأثر في عالم تغيرت معطياته وشروط الفعل فيه. ويترتب عن ذلك أن إشكالية ابتكار المضامين المناسبة والسياسات الناجعة لتحقيق العدالة الاجتماعية في بلادنا توجد في صلب المسؤولية الحزبية التي يتحملها حزب الأصالة والمعاصرة، في سياق عالمي غير مستقر، تظهر فيه القوى العظمى، أقدر من غيرها على الاستفادة من الفرص التي تتيحها العولمة، وتتصرف بما يحفظ مصالحها الآنية والإستراتيجية بالأساس، مما يعرض بقية البلدان للأخطار المترتبة عن السياسات الضيقة الأفق، وعلى رأس تلك الأخطار: تعميق الهشاشة الاجتماعية لا أن أزمات نمو الرأسمالية، واعتماد الربح والإنتاجية كأهداف حيوية من طرف أرباب العمل، أدى إلى تأزم أوضاع الطبقة العاملة التي كانت تنتج الثروة دون أن تستفيد من نتائجها ، فكثرت الصراعات الإجتماعية، ولجأ العمال إلى كل الأساليب دفاعا عن مصالحهم من خلال القيام بالإضرابات والإحتجاجات واحتلال المعامل. وكانت هذه النضالات في بدايتها عشوائية قبل أن تتأطر داخل الإتحادات العمالية وداخل النقابات ، في هذه الأجواء ظهر الفكر الإشتراكي لكي يدعو إلى إقامة نظام سياسي بديل. وقد مر الفكر الإشتراكي من مراحل مختلفة، قبل أن يصل إلى ما سمي بالإشتراكية العلمية ،على يد المفكرين الألمانين ، مثل كارل ماركس (صاحب كتاب الرأسمال)و غيره.
غير أن التاريخ لم يتطور حسب ما تنبأ به المفكرون الإشتراكيون ، فبدل الدول الصناعية المتطورة ، ظهرت التجربة الأولى في دولة أقل تطورا آنذاك وهي روسيا على يد حزب فلاديمير لينين الحزب البولشفي الشيوعي، ثم في الصين الفلاحية فيما بعد على يد الحزب الشيوعي الذي قاده ماو تسي تونغ، واتسمت هذه التجارب بنوع من الصراع الحاد وغياب الديمقراطية واعتبار المخالفين أعداء الثورة ،وكان النظام السياسي شموليا يحكمه الحزب الوحيد الممسك بيد من حديد على مقاليد الأمور، بل إن العديد من التجارب الإشتراكية كانت مفروضة بواسطة التدخل الخارجي ،كما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية من خلال التدخل الروسي في دول أوروبا الشرقية.غير أن هذا الوضع المختنق والمفروض ، سينهار بسرعة بعد أقل من أربعة عقود( تحولات أواخر الثمانينيات) وستعود أغلب الدول إلى الإختيار الليبرالي الديمقراطي وإلى اقتصاد السوق . أي لا حاجة إلى اليقين الواضح الفوري، كذلك لا تكفي الإمكانية النظرية فالمطلوب هو الأدلة الحقيقية والتقويم يجب أن يقوم على الوقائع المعروفة بما فيها تجارب الماضي. يجب عدم الاكتفاء بالفرضيات والتخوفات، ولا يكفي الزعم بإمكانية فعله للمس بالأمن العام أيضا. الوضع على أرض الواقع يجب أن يشير إلى خطر فعلي محتمل مع إمكانية الموازنة بين مدى الاحتمال ومدى الخطورة في الإصابة.
مثال: الحق في الحياة والأمن مقابل حرية التظاهر.
فإنه يمكن إلغاء أو تقييد حرية التظاهر والخروج في مسيرة لاعتبارات سلامة الجمهور. لأن ممكن أن تؤدي مظاهرة معينة إلى تواجد جمهور معادٍ لها مما يؤدي إلى ضرر ومس بحياة وسلامة الآخرين. لذلك في حالات معينة يوجد إمكانية بإلغاء مظاهرة إذا كان هناك احتمال لإصابات وذلك بناء على ما حدث بالماضي. لأنه لا يجوز لحق التظاهر أن يتحول إلى حمام دماء لأن المس العنيف بالنظام العام قد
يؤدي إلى المس بالنسيج الاجتماعي ونظام الحكم الديمقراطي.
ولكن على الشرطة أن يكون حلها الأخير هو إلغاء مظاهرة أو مسيرة. فحين تتجه النية إلى إلغاء أو تقليص حق أساسي للإنسان قانونيا يجب على السلطة أن تختار أقل الوسائل تطرفا. ن التضامن إحساس بالمسؤولية المتبادلة اتجاه الجماعة، ويتجلى في تقديم الخدمات للآخرين دون مقابل ،كما أنه انخراط فعلي في بناء قيم الجماعة، وتشكيل الهوية الجماعية ، فالتضامن ليس مجرد إحساس فردي عاطفي أو عمل خيري عابر ،بل هو قناعة فكرية وسياسية نتجاوز من خلالها فرديتنا لننفتح على الجماعة .
لقد عملت أغلب الأنظمة الديمقراطية الإجتماعية ،على تحويل الحس التضامني إلى مؤسسات وبنيات اجتماعية ،تعمل على عقلنة التضامن وتطويره كي يسهم في الحماية الإجتماعية، فالتضامن المؤسسي ليس مجرد عمل خيري فردي اختياري محدود في الزمن، بل هو قناعة سياسية دائمة .
والتضامن الفعلي في المجتمعات الديمقراطية مرتبط بالحرية والمساواة والتكافل بين جميع طبقات المجتمع ، كما أنه مرهون بإسهام كل من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في تنزيل البرنامج التضامني على أرض الواقع بنوع من الإنسجام والتناغم ، لكل هذا فإن بناء مجتمع متضامن ومتعاون يتطلب مستوى عالى من النضج ،وإرادة لدى المواطنين، للمساهمة التلقائية في مساعدة من هم في حاجة، والسعي إلى اقتسام الثروة الوطنية بشكل عادل. لقد تطورت أشكال التضامن تاريخيا مع تطور الحضارة ، فظهرت التأمينات بمختلف صيغها والتعويض عن البطالة والمرض والعجز والحوادث ، وأنظمة التقاعد، كما ظهر الإقتصاد التضامني الذي يهدف إلى تحقيق المصالح الجماعية للأعضاء في إطار تكامل وانسجام بدل التنافس المميز لنظام السوق ،ويشمل التعاونيات والتعاضد يات ،وكل المؤسسات التي تقوم على أساس المساواة والتضامن بين الأعضاء ،وعلى نوع من الإستقلالية ،وتؤطرها قوانين خاصة ، ليس هدفها الربح بل حل بعض الإشكالات الإجتماعية وتخفيف الأعباء على الأعضاء بشكل تضامني وتشاركي لأن المصلحة العامة تسمو على المصالح الخاصة .وتأتي التعاونيات في مقدمة هذه المؤسسات خاصة في مجالات الفلاحة والصناعة التقليدية حيث تسهر الدولة على تشجيعها عبر الإعانات، والإعفاءات الضريبية والقروض، وهناك التعاضديات خاصة في المجال الصحي والتي تتأسس على مساهمات الأعضاء والتضامن لتخفيف أعباء العلاجات ...لقد أصبح الإقتصاد التضامني مشغلا مهما لليد العاملة بالإضافة إلى مساهمته في حل العديد من المعضلات الإجتماعية، ووضع أسس تنمية مستدامة .
كما يتميزالنموذج الديمقراطي الإجتماعي بتبني فلسفة الحماية الإجتماعية، القائمة على وضع آليات دائمة لتفادي كل المشاكل الناتجة عن طوارئ الحياة ، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض دخل المواطنين (في حالات فقدان الشغل ،أو المرض أو الإعاقة أو الشيخوخة أو التقاعد أومختلف التحملات العائلية...) فنظام الحماية الإجتماعية يخفف الأعباء المادية عن الأسر المحدودة الدخل ويقلص التفاوت الإجتماعي أمام المخاطر، ويضمن حدا أدنى من الدخل الذي يسمح بالإندماج الإجتماعي. وتسهر منظمات الضمان الإجتماعي على تصريف سياسة الدولة في مجال الحماية الإجتماعية ، وإذا كانت كل الدول الأوروبية قد أقامت أنظمة للحماية الإجتماعية ، فإن الدول التي تبنت الإختيار الديمقراطي الإجتماعي ( شمال أوروبا وألمانيا كمثال) تميزت بإقامة أنظمة نموذجية ومتطورة تحمي المواطن من أي خوف على مستقبله ،في ظل الأزمات والتقلبات التي يشهدها الإقتصاد الدولي بل إن بعض النماذج وصلت إلى مستوى تحقيق نوع من الرفاه الإجتماعي الذي عجزت عنه الأنظمة الأخرى( مساعدات مهمة في مجالات السكن والصحة والتعليم المجاني وكل أشكال التأمين ضد فقدان العمل وضد العجز ، وضمانات الشيخوخة والتقاعد ورعاية ذوي الإحتياجات الخاصة ..)وإذا كانت الدولة هي الراعي الأساسي لنظام الحماية الإجتماعية من خلال مساهماتها المادية المهمة ،فإن القطاع الخاص والجماعات المحلية لها مساهمات متميزة لدعم هذا النظام وإنجاحه جهويا ومحليا،كما أن أرباب العمل،و جميع الفئات النشيطة تساهم عبر أقساط تقتطع من مدخولها ومختلف ضرائبها لضمان استمرارية هذا النظام الذي يعكس أرقى أشكال التضامن الإجتماعي.
إن التضامن لا يتطور إلا مع الوعي بالمصالح المشتركة بين أبناء الوطن الواحد ( أغنياء وفقراء ) ومن شأن التكامل والإنسجام أن يعطيا قوة لاحمة للمجتمع ،خاصة إذا تم ترجمة كل ذلك إلى اختيار سياسي واضح المعالم، وإلى مؤسسات قائمة الذات، تجسد تلك القناعة السياسية .
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ومدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق