نانسي دقماق / الأردن
مع غياب الشّمس المُتعبة خلف الجبال البعيدة بدأ الليل ُ ينشر عتمه شيئاً فشيئاً على كل بيت وبستان، على كل باحات القدس العتيقة ، ليبدأ مشوارُ سهر وليل طويل، يصافحَ وَهج الفجر المُتألق. كانت قد بدأت بإعداد وجبة عشاء انتظرها الجميع وتحلّقوا حولها حين أصبحت جاهزة. دقّ جرس الهاتف، ونشرت صوتها عبره ليأتي صوته بعدها نغمةً عذبة جميلة تسللت إلى قلبها، فقد كانت تنتظر هذا الصوت منذ زمن طويل!
زمنٌ ألقى به في سجون الاحتلال ليبقى قابعاً فيه مدة أذابت شبابه وشبابها ، ارتعشت أمام صوته المهيب واختلجت عواطفها حباً وسعادة ! كيف لا وقد افنت زهرة شبابها حافظةً الوعد بالانتظار، الانتظار حتى الموت .
ذرفت دموعاً كثيرة، ودخلت غرفتها وتناولت من الثياب بيدها المرتعشة ما كان أقرب إليها، وخرجت دون أن تكلم أحداً. خطواتها السريعةُ المتلهفةُ جعلتها تتعثر أكثر من مرة على الطريق. كان اللقاء في المكان المحبب إليهما، عند أعلى التلة.
تحت الشجرة القديمة وقف هناك منتظراً ليلمحَ عينيها ويشتم عطرها الغائب منذ دهر، ليلمس خصلات شعرها البنية ويغذي روحه المتهالكة بشدو صوتها العذب، ليروي عطشَ ساعات وسنين انقضت.
مرت الدقائق وكأنها سنوات أضيفت إلى مدة حكمه، قضاها جيئة وذهاباً ينظرُ في جميع الاتجاهات، وكأن الصبر ملَّ منه بعد تلك الأوجاع التي خبرها في زنزانته، ومن فرط شوقه سالت دموع الحب بحرارة. كان يريد احتضان روح فارقها وتركها وراءه في مهب الريح والمجهول ، وما هي إلا دقائق حتى أتت مكللةً بالبهاء .
كانت تفصلهما مسافة ألم وتعب ،مسافة دموع انسكبت أحر من جمر ونار! تأمل وجهها وما رسم الزمان فيه، فلم يأبه لبعض تلك التجاعيد التي ظهرت حول عينيها أو لهزال جسدها الذي أضناه الفراق واللوعة، وإنما نظر في مرآة روحها المحبة. تأمل عينيها ليرى حديثها، فقد غدا الصمت لغة الاثنين، وكان غزل الدموع هو المتحدث الوحيد. بلمسة حنان استشعر ملامحها بهدوء، واستشعر كل خط مرسوم على محيّاها، وبعبثية خجولة زيّن خدها بقبلة، قلّبت معها أيامها الجافة دونه وارتوت بشغف حنين امتد لزمن بعيد.
كانت تتأبطه حباً وشوقاً. أرادت دفن جسدها الضئيل داخل جسده لتنعم بدفء حرمتها منه زنزانة باردة دَمرت روابط حب أزهرَ في أول أيام الربيع .
جرت الأمور كما أراد وأرادت وتزوّجا. أقاما في عش امتلأ بالمحبة، كان محاطٌاً بأشجار البرتقال التي عشقتها كثيراً، وعلى جدرانه تسلّقت شجرة ياسمين امتدّ عبقها إلى جميع غُرف البيت الصغيرة. كانت رائحةُ القهوة تنتشر لتحيي السهرات الطويلة عند اجتماع الأهل والأحبة.
تعالت فجأة أصوات أطفالهما عند الظهيرة منذرة بخطب ما، فقد انقضّت الغربان على بوابة البيت، وما كان من الأم إلا أن حملت فاساً ضمته إلى صدرها لتمنع دخولهم ولكنها لم تفلح، واستطاعوا أن يدنسوا كل شبر مسته أيديهم.
ماتت رائحة الياسمين وجف البرتقال. مات كل شيء.
اغتيل الأمل، وأخرجت العائلة الصغيرة من تلك الغرف المعطرة بالياسمين، وكانت آلة الدمار في الانتظار! في لحظة واحدة أصبح البيت رماداً تذروه الرياح، ومع صوت الهدم والغبار عمّ السكون المكان .
لم تستطع الوقوف على قدميها وهي تحتضن رضيعها. تقدم زوجها نحو الغربان، فانطلقت رصاصةٌ نحوه دوّت كصوت امرأة تصرخ. تناثرت حبات التفاح على الارض، وسقط على الارض ملطخاً بدمائه. ذرفَ دمعة وداع أخيرة، وفاضت روحه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق