طارق مجاهد العربى
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
تأتي مصر ضمن أكثر أربعة دول تقاضى دوليا من قبل مستثمرين أجانب. فقد تقدم مستثمرون أجانب بأكثر من عشرة دعاوى قضائية ضد مصر منذ قيام الثورة في يناير 2011، وذلك أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID(( فقط، ومن الأكيد أن الرقم الأصلي يفوق هذه القضايا المعروفة، لأن العديد من القضايا تظل سرية، طبقا لقواعد المحاكم الدولية المختلفة المتخصصة في الفض في قضايا الاستثمار. وبالرغم من الضرر الذي تعرضت له مصر طوال السنوات الماضية، سواء كان قبل أو بعد قيام الثورة، الا أن مصر تظل مستعدة لتكبيل القضاء المصري والسيادة السياسية المصرية في اتخاذ القرار وذلك بالدخول في اتفاقيات استثمار ثنائية أو اتفاقات حرة للتجارة والاستثمار جديدة. بل وتستمر الدولة المصرية في اغفال الآثار السلبية الخطرة المترتبة على الدخول في تلك الاتفاقات الاستثمارية، وأهمها الحماية البالغة التي يحصل عليها المستثمر الأجنبي من خال تلك الاتفاقيات الدولية، كقدرته على تخطي القضاء المحلي وتقديم قضايا ضد الدولة والمطالبة بالتعويضات أمام المحاكم المتخصصة في قضايا الاستثمار، حتى ولو ثبت الفساد في استثماره. كما أن المحاكم الدولية المتخصصة في قضايا الاستثمار تختلف عن المحاكم الدولية الأخرى في أنها تتخطى القضاء المحلي ولا تأخذ أحكامه بعين الاعتبار، بل وتختلف أيضا في أن العديد من هذه المحاكم –حسب طبيعة اتفاقيات الاستثمار الثنائية- لها القدرة على تنفيذ الأحكام. بعد عقود من الفساد الذي أهدر المال العام المصري، وأضاع حق المصريين في ثرواتهم، تظل الدولة المصرية غير قادرة على محاسبة الفاسدين واعادة الحقوق المنهوبة، وذلك بشكل أساسي بسبب الاتفاقات الاستثمارية التي وقعت عليها مصر مع أكثر من مئة )100( دولة. ومن المحزن، أن مصر بدلا من أن تراجع موقفها من تلك الاتفاقيات –كما تفعل العديد من الدول حاليا- اتجهت لتعديل تشريعاتها للسماح بالتصالح مع الفساد والغاء أحكام القضاء المصري الذي كشف الفساد في العديد من عمليات الخصخصة وبيع الأراضي، معللة بذلك الخوف من التقاضي الدولي. بل واتجهت الحكومات المصرية المتتالية لتعديل قوانين الاستثمار المحلية، وخاصة قانون المزايدات المناقصات وقانون ضمانات وحوافز الاستثمار، وذلك لغلق باب التقاضي المحلي ضد الفساد –خوفا من التقاضي الدولي- مما يهدد بفساد أكثر وتصالح مع جرائم تهدد الاقتصاد المصري ومعيشة المصريين. عقود من الفساد في مصر تعد مصر من أكثر الدول التي يسيطر عليها الفساد، وذلك خاصة في القطاع الحكومي والجهاز الاداري للدولة. ولعل مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية العالمية خير ما يدل على تدهور الوضع في مصر، خاصة فيما يتعلق بانتشار الفساد المستمر، وفشل الدولة في مكافحته أو التعامل معه. فقد جاءت مصر في ترتيب متأخر على مستوى العالم، لتحتل المرتبة ال١١٨ من أصل ١٧٦ بلدًا على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية العالمية لعام 20121، وهو ما يعد تدهور واضح لمستوى مصر التي احتلت المرتبة ال98 في نفس المؤشر في 2010. كما أن البنك الدولي في تقريره لمؤشرات الحوكمة لعام 2011 أشار إلى أن مصر في المرتبة ال%30 من الدول الأقل تحكمًا في الفساد. مرت على مصر عقود من الفساد، كان أهمها العقدين الأخيرين الذين شهدا عمليات واسعة لخصخصة القطاع العام، وعمليات ممنهجة لبيع الأراضي وخاصة الأراضي الأراضي الزراعية، وتخصيصها لاستثمار. وقد تمت هذه العمليات من خال الخلط بين ل السياسة والاستثمار تحت ستار الخصخصة وتحرير الاقتصاد، والتي سمحت للنخبة السياسية والانخب الاقتصادية بشراء الأصول المملوكة للدولة بقيمة أقل بكثير من قيمتها السوقية، أو احتكار الريع من مصادر مثل السياحة والمساعدات الخارجية. وبالرغم من أن الفساد يعد من أهم وأخطر التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري ومعيشة المصريين. فمصر تفقد أكثر من 6 مليار دولار سنويا بسبب الفساد والتدفقات المالية الغير مشروعة، وفقدت بين عامي 2000 و2008 حوالي 57.2 مليار دولار. وهكذا تأتي مصر في المرتبة الثالثة على مستوى افريقيا كدولة من أكثر الدول التي تفقد ثروات وموارد بسبب الفساد والتدفقات المالية الغير مشروعة. فلو أن مصر تفقد سنويا حوالي 40 مليار جنيه مصري بسبب الفساد، وهو ما يوازي مرة ونصف ميزانية الصحة في 2012-2013، والبالغة 27 مليار جنيه مصري، فهذا المبلغ كان من الأفضل أن يتم توجيهه لتكوير منظومة الصحة أو التعليم في مصر، والذان يعانيان من ضعف الانفاق الحكومي. من الجدير بالذكر أن الفساد يعد من أهم عوائق الاستثمار في مصر، فقد أشارت الدراسات الى أن حوالي ٤٠٪ من الشركات الصغيرة والمتوسطة تعاملت بالرشوة من أجل الحصول على ترخيص، كما أشارت دراسة البنك الدولي الأحدث لعام 2013 أن الفساد وانتشاره خاصة في الشرق الأوسط قد تسبب في انعدام الثقة بين أجهزة الدولة والمستثمرين. لذا فمحاربة الفساد يجب أن يكون من أولويات الحكومة المصرية، لأنه جريمة في حق الاقتصاد المصري، وجريمة في حق كل مواطن مصري، كما أن السماح بالافات من العقوبة للفاسدين، والتصالح مع جرائم الفساد سيكون له الأثر الخطير، ليس فقط على معيشة المصريين، ولكن ايضا على جذب الاستثمار واسترداد ثقة المستثمرين الجادين في نزاهة النظام المصري. . أولوية الاستثمار الأجنبي: أي استثمار؟ من المؤسف أن الحكومة المصرية لا تزال تتعامل مع الاستثمار بشكل سطحي، يفتقد لدراسة عميقة لاشكاليات الاستثمار الحقيقية في مصر. فتظل مصر تعتبر أن الامتيازات الهائلة الممنوحة للمستثمرين، وخاصة المستثمر الأجنبي، هي الطريق الأفضل لتشجيع الاستثمار. لذا فليس من العجيب أن يصرح وزير الاستثمار ، المهندس أسامة صالح، أن « مصر لديها اتفاقيات مع معظم دول العالم لحماية الاستثمار، والمستثمر الأجنبي يمكنه تحويل أرباحه من مصر، وأعتقد أن عائد الاستثمار في مصر مغر جدا لأي مستثمر، وهو ما يمثل عودة صريحة لسياسات مبارك التي أعطت امتيازات خرافية للمستثمر، وهكذا انتهى الحال بأن أصبح مناخ الاستثمار في مصر يجذب المستثمر الغير الجاد، ويجذب الفاسدين، ممن يشترون الأراضي الزراعية ثم يحولونها لمنتجعات للاسكان الفاخر، أو ممن يشترون مصانع وأصول الدولة لايستياء على الأراضي والمساحات الشاسعة التي للل بنيت عليها، ولتفكيكها وبيعها. بالرغم من أن تلك الامتيازات لم تؤتي ثمارها طوال العقود الماضية في جذب الاستثمارات التي تحتاجها مصر، الا أن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، والحكومة الحالية الانتقالية، لا تزال تتمسك بسياسات جذب الاستثمار التي أظهرت فشلها في جذب الاستثمار. كما لا تزال الحكومة المصرية ترى في جذ الاستثمارات الأجنبية حا لكل مشاكل مصر، معطية بذلك الأولية للآليات جذب الاستثمار الأجنبي، ومتجاهلة بذلك الموارد المتاحة في مصر والحلول الوطنية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعقدة، كالأجور والسكن والصحة والتعليم. فالاستثمار الأجنبي له بالفعل عدة فوائد، أهمها تشغيل العمالة المصرية، ونقل الخبرات العالمية والتكنولوجية لمصر، وادخال صناعات جديدة للدولة، وادخال التدفقات المالية لاقتصاد المحلي. ولكن الاستثمار الذي ل تجذبه مصر حتى الآن لم يكن الاستثمار المفيد الذي يحقق المرجو منه، بل كان اما شراء لأصول تملكها الدولة )وهو ما نتج عنه برنامج الخصخصة الي تسبب في تفكيك الصناعة المصرية وتشريد نسبة كبيرة من العمالة المصرية(، أو الاستثمار في قطاع البناء والتشييد والذي سيطر عليه بناء المنتجعات السكنية الفاخرة )وهي بالمناسبة من أهم القطاعات المسؤولة عن القضايا المقدمة ضد مصر في محاكم الاستثمار الدولية(. لذا، فهناك حاجة ماسة لمراجعة أولويات الاستثمار في مصر، والتي قد تتمركز في جذب الاستثمار في القطاعات كثيفة العمالة، مع دراسة الاستثمار في العقود الماضية وأسباب فشل مصر في جذب الاستثمار المفيد والجاد. وهكذا، فاصرار وزير الاستثمار الحالي على أن «حماية الاستثمار» وقدرة المستثمر على تحويل أمواله خارج مصر، هما من أهم مميزات مناخ الاستثمار المصري، ما هو الا تجاهل للعقود الماضية والفساد الذي شهدتهه، وما هو الا استمرار لسياسات مبارك في جذب اسثمارات نقدية لا تفيد الاقتصاد ولا تعود بالنفع على المواطن المصري، بل وتعود بالنفع على المستثمر فقط، الذي تمنحه مصر القدرة على تحويل كل ما كسبه في مصر للخارج. واستمرارا لتلك السياسات التي تشجع الفساد والجشع ولا تحمي المصالح المصرية، قامت الحكومات المصرية المتعاقبة بعد الثورة بتعديل تشريعاتها بشكل يسهل التصالح مع الفساد، بل ويتخطى أحكام القضاء المصري، وبذلك أخلّت بسيادة القانون وأهدرت حق المواطن المصري في محاسبة الفاسدين، ورسخت لمبدأ صريح هو أن الفساد ليس جريمة. ونذكر هنا قانونين تم تعديلهما بشكل مؤسف، بهدف التصالح مع الفساد والالتفاف حول أحكام القضاء المصري، هما تعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار الصادر بالقانون رقم 8 لسنة 1997، والمعدل بمرسوم قانون رقم 4 لعام 2012، والمعروف بقانون التصالح مع المستثمر، وتعديل بعض أحكام القانون رقم 89 لسنة 1998 باصدار قانون تنظيم المناقصات والمزايدات المعدل بقانون رقم 82 لسنة 2013 )ومن المنتظر اصدار قوانين أخرى عديدة ضمن خطة الحكومة الانتقالية لتعديل الاطار التشريعي للاستثمار في مصر من أجل ما تسميه بتحفيز الاستثمار. وعلى سبيل المثال، فإن القانون رقم ٤ لعام ٢٠١٢ بشأن تعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار الصادر بالقانون رقم 8 لسنة 1997، خوّل الهيئة العامة للمناطق الحرة والاستثمار بتسوية حالات الغش في الاستثمار والسرقة والفساد خارج المحكمة الجنائية، مما أبطل الإجراءات الجنائية ضد المستثمرين في حالات الفساد كافة، ومما ألغى دور القضاء في محاسبة الفاسدين، مغيرا بذلك على سيادة القانون. وتم تمرير هذا القانون في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يناير 2012، ولم يتم إلغاؤه من قبل أي من السلطات التشريعية المتعاقبة؛ إن كان مجلس الشعب أو الرئيس السابق مرسي أو مجلس الشورى. بل وتم تطويره في عهد الرئيس السابق مرسي، وذلك بغرض تسهيل اجراءات المصالحة مع المستثمرين. ومن الجدير بالذكر، أن الحكومة الانتقالية الحالية تسير في نفس اتجاه حكومة مرسي وتكمل ما بدأه الرئيس المعزول، وهو الذي سار على خطى المجلس الأعلى للقوات المسلحة من قبل. فلو أخذنا تعديات ما يسمى بقانون التصالح مع المستثمرين كمثال، فالتعديل بمروم قانون رقم 4 لسنة 2012 بدأ في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يناير 2012، ثم جاءت حكومة الرئيس المعزول محمد مرسي، بقيادة هشام قتنديل ، لتحافظ على القانون، وتبدأ في تنفيذ بعض التصالحات مع المستثمرين، بل جاءت لتحديث قانون التصالح في مايو 2012، لتسهيل اجراءات التصالح، وهي التعديات التي وافق عليها مجلس الوزراء وأحالها لمجلس الشورى، الذي تم حله قبل اصدارها. ثم تأتي حكومة خارطة الطريق الانتقالية لتعلن أن التعديات المقترحة في عهد حكومة قنديل ستكون جزءا من حزمة التعديات التشريعية التي ستتبعها الحكومة من أجل التصالح مع المستثمرين في قضايا الفساد، ومن أجل تخطي القضاء المصري الذي قدم أحكام باسترداد الدولة لمصانع وأراضي وأصول تم الاستياء عليهم في لصفقات فاسدة. أما بالنسبة للتعديات الخاصة بقانون رقم 89 لسنة 1998 لتنظيم المناقصات والمزايدات، فكان هناك تعديان أساسيان: أولا، اعفاء بعض الهيئات والوحدات المحلية من سريان القانون عليها، وذلك لتضييق مظلة سريان القانون، وثانيا، تم تعديل المادة 7 )الفقرة الأولى( لتسهيل البيع المباشر )التعاقد بطريق الاتفاق المباشر(، فمثا بعد أن كان للوزير حق البيع المباشر بالنسبة للمقاولات العامة فيما لا يتجاوز سعره ثلثمائة ألف جنيه )300,000 جنيه مصري(، أصبح بموجب القانون الجديد الصادر في 11 سبتمبر 2013 من حق الوزير المختص البيع بالأمر المباشر بالنسبة للمقاولات العامة فيما لا يتجاوز سعره عشرة مايين ل جنيه! وهو ما يعد أيضا تضييق لمظلة سريان قانون المزايدات والمناقصات، وما ينذر بأن للوزراء ورؤساء الهيئات ورؤساء المصالح حرية أكبر في البيع والتصرف في الممتلكات العامة، وهو ينذر بامكانية أكبر للفساد، خاصة في دولة يستشري فيها الفساد ولا يجد له رادع. ومن المؤسف أن الحكومة الحالية تؤكد على خطتها لتقديم حزمة من التعديات التشريعية بهدف تسهيل التصالح وضمان حماية المستثمر وتشجيع الاستثمار، دون الوضع في الاعتبار أن ما تحضر له الحكومة الحالية ما هو الا غطاء قانوني لفساد وجرائم اقتصادية، وأن السماح للفاسدين بالافلات من العقاب، بل وعدم الاعتراف بأن ما شهدته مصر كان فسادا، ما هو الا اشارة للمستثمرين والجهاز الاداري للدولة أن الفساد ليس بجريمة، وأن الفساد مقبول في مصر، بهدف تشجيع الاستثمار! وهو للأسف التوجه الذي اتفقت عليه الحكومات المتتالية منذ الثورة، بدءا من حكومة الجنزوري، ثم حكومة قنديل ووصولا لحكومة الببلاوي الحالية. وكانت الحكومة الوحيدة التي اتجهت نحو العزوف عن هذه السياسات التي ما هي الا استمرار لسياسات مبارك، هي حكومة شرف. فنذكر أن الدكتور علي السلمي، نائب رئيس الوزراء آنذاك، قد قرر وأعلن إلغاء برنامج الخصخصة الذي شابه الكثير من الفساد وتشكيل لجنة لمراجعة عقود الشركات التى تم التخلص منها، على حد قوله. فى الوقت ذاته قرر إلغاء وزارة الاستثمار، والتوصل لآليات قانونية لمنع تعارض المصالح، ولذلك حتى لا يتكرر التزاوج بين السلطة والمال، كما حدث في عهد مبارك. لذا فقد كانت مبادرات السلمي في حكومة شرف هي الأكثر ثورية واستجابة لمطالب الثورة في التغيير. أما كل ما تاها ل من حكومات وسياسات فقد كان عودة صريحة لسياسات مبارك في تفضيل المستثمرين والتزاوج بين النخب الاقتصادية والسياسية، وتحصين لصفقات الفساد السابقة وترحيب صريح باستمرار الفساد. مصر في هيكل الاستثمار الدولي:اتفاقيات الاستثمار الثنائية يعد الهيكل العالمي للاستثمار والتجارة من أهم الأطر التي تحدد سياسات مصر. ومن الجدير بالذكر أن اتفاقيات التجارة ل والاستثمار حاليا لا تقف عند تحرير الأسعار والغاء الجمارك، بل أصبحت اتفاقيات تتمحور حول السياسة الاقتصادية المحلية، وتضع شروط مجحفة على السياسات العامة، وفي مقدمتها سياسات الدعم وحماية الاستثمار والسياسة الضريبية والسياسات الصناعية. فعلى سبيل المثال، بدأ الاتحاد الأوروبي مع بداية ما يسمى بالربيع العربي ببدء التفاوض مع مصر وتونس والمغرب والأردن حول اتفاقيات تجارة حرة وعميقة، تتمركز حول دعم المستثمر الأجنبي في دول الربيع العربي، من خال تغيير السياسات والقوانين التي تحكم الاحتكار والمنافسة والمشتريات العامة، ومن أجل ضمان أن المستثمر الأجنبي في مصر لا يحكمه القضاء المصري، بل يتخطى نطاق القضاء المحلي ويلزم الدولة بالتعامل مه أمام محاكم الاستثمار الدولية، التي سنتطرق لها لاحقا ولتحيزها للمستثمرين. وهكذا، فقد أضحت اتفاقيات التجارة والاستثمار الحرة، واتفاقيات الاسثمار الثنائية، هي قيود على قدرة الدولة في صناعة السياسة العامة التي تناسبها. وتعد منظمة التجارة العالمية من الأطر التي تشجع على نشر سياسات اقتصادية «حرة» وفتح الأسواق من خال اتفاقاتها متعددة الأطراف، والتي كان من ضمنها اتفاقيات الغاء دعم الدولة للمزارعين. في ظل هذه الخلفية، سنتطرق في هذا التقرير لنوع واحد من الاتفاقيات، هي اتفاقيات الاستثمار الثنائية، وهي التي تعتبر الأكثر تأثيرا على مصر في الفترة الحالية من حيث تكبيل قدرة مصر على محاسبة فساد نظام مبارك، والانتقاص من قيمة القضاء المصري والأحكام التاريخية التي أبطلت عقود فاسدة للخصخصة وبيع الأراضي. إن اتفاقيات الاستثمار الثنائية BIT(( هي اتفاقيات تضع الأحكام والشروط لتحكم وتنظم ترتيبات الاستثمار ما بين دولتين، ولذا تسمى بالثنائية. وتقدم المصادر المختلفة معلومات متفاوتة عن دخول مصر في الاتفاقيات الاستثمارية الثنائية. فمثلا، الهيئة العامة للاستثمار تدعى أن مصر حاليا طرفا في 69 معاهدة استثمار ثنائية، في حين أن معلومات المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي تبين أن مصر طرفآ في 92 معاهدة، بينما يؤكد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية )الأونكتاد( أن مصر طرفآ في 100 معاهدة. وتشير حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في تقريرها السنوي لمناخ الاستثمار في مصر لسنة 2013 أن مصر طرفا في 111 اتفاقية استثمار ثنائية. وأخيرا، فوزير الاستثمار المصري يؤكد أن مصر لديها اتفاقيات ثنائية «مع معظم دول العالم لحماية الاستثمار.» هذا التفاوت الواضح في عدد اتفاقيات الاستثمار الثنائية يرجع الى طبيعة تلك الاتفاقيات التي تظل في مجملها وتفاصيلها سرية، ويكون التفاوض عليها بين الدولتين بشكل سري ومغلق. كما أن هذا التفاوت يلقي الضوء على الخلل المستمر في قدرة الدولة على توفير معلومات للمواطنين، حيث تعد أعداد الاتفاقيات الثنائية التي توفرها الهيئة العامة للاستثمار المصرية هي الأقل. وحددت الهيئة العامة للاستثمار المصرية سبعة مميزات لهذة المعاهدات الثنائية، هي: حماية الاستثمار. حرية التعامل بين الاستثمارات والمستثمرين. حرية نقل المدفوعات المتعلقة بالاستثمار. التعويضات بدائل متعددة لتسوية منازعات الاستثمار. التعريفات تشجيع الاستثمار استنادا للنقاط السبع المحددة من قبل الهيئة العامة لاستثمار، تعتبر مصر أن التوقيع على تلك المعاهدات من أهم استراتيجيات ل تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي حقيقة الأمر أن ليست مصر الدولة الوحيدة التي تتبع تلك السياسة في الاستثمار، بل ان دول افريقيا يمارسون ما يسمى ب»صراع للقاع»، حيث تتصارع الدول الافريقية في تسهيل مناخ الاستثمار لديها من أجل منافسة الدول الأخرى في جذب المستثمرين، فينتهي الحال بالدول أن تتصارع للقاع دون أن تجذب الاستثمارات المرجوة. لذا، فليس من الغريب أن العديد من دول افريقيا ومنهم مصر تمنح المستثمرين كافة الامتيازات بشكل تلقائي، وذلك دون حتى دراسة القيمة المضافة لاستثماراتهم. ومن الجدير بالذكر، أن العلاقة بين الدخول في تلك الاتفاقيات وجذب الاستثمار الجنبي أصبح أمر غير مفروغ منه، بل بدأت العديد من الدول النامية، وخاصة دول أمريكا الاتينية في مراجعة المعاهدات الاستثمارية الثنائية، وذلك لتطهيرها من الشروط المجحفة التي تكبل حرية الدول في صنع السياسات العامة، وهو ما سنتتطرق له لاحقا. ارتفع عدد المعاهدات الاستثمارية الثنائية في العالم في الأعوام القليلة الماضية نتيجة لفشل منظمة التجارة العالمية في التفاوض على معاهدات متعددة الأطراف لحماية الاستثمار، ويأتي هذا الفشل بشكل أساسي بسبب جهود الدول النامية في تعطيل هذه المعاهدات الغير عادلة في دورات التفاوض في منظمة التجارة العالمية، وهي الدول التي شهدت الأثر السلبي لاتفاقيات حماية الاستثمار على اقتصادها وعلى مساحة صنع السياسات واتخاذ القرار. فقد أظهر تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن عدد حالات التقاضي في المحاكم الدولية المتخصصة في الاستثمار قد شهد طفرة غير مسبوقة في 2012، أرجع التقرير هذا التزايد الهائل في القضايا لزيادة عدد اتفاقيات الاستثمار الثنائية، كما أوضح أن حوالي %68 من الدول المتضررة من التحكيم كانت الدول النامية. كما ذكر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والاستثمار أن أحكام الاستثمار المربوطة باتفاقيات التجارية الحرة «يمكن أن تعوق قدرة الحكومات على العمل من أجل شعبهم. هذا يحدث عندما تصبح حماية الاستثمارات غاية في حد ذاتها، بدلا من أن تكون وسيلة لتحقيق تنمية اقتصادية كجزء من خطة استراتيجية ترسمها الدولة بحرية للنهوض بمواردها ولتحقيق التنمية المستدامة. اتفاقيات الاستثمار الثنائية: قيود غير مبررة وفي ظل هذه الخلفية، فاتفاقيات الاستثمار الثنائية جاءت لتطبق شروط تسري في الاستثمار بين الدولتين الموقعتين على الاتفاقية، حيث تسري على المستثمرين من الدولة الأولى في الدولة الثانية وعلى مستثمري الدولة الثانية في الدولة الأولى. فمثا، اتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر وايطاليا، تسري على المستثمرين الايطاليين في مصر، والمستثمرين المصريين في ايطاليا. ولعل من المهم الرجوع لقضية هامة في هذا الاطار لتوضيح خطورة تلك الاتفاقيات الثنائية. قضية وجيه سياج تعتبر من أهم القضايا الدولية التي اشتهرت اعاميا في مصر، والتي ترجع لها العديد من الدول في التأكيد على موقفهم الرافض لاتفاقيات الاستثمار الثنائية ل الغير عادلة. وتعود مابسات القضية لعام 2009، عندما تقدم رجل الأعمال وجيه سياج وشريكته كلوريندا بيتشي بدعوى قضائية ل ضد مصر أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي، مستندين لاتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر وايطاليا. تقدم المدعون بدعوى ضد مصر كمستثمرين يحملون الجنسية الايطالية، وذلك عن استثماراتهم في شركتين هما شركة سياج لاستثمارات السياحية وادارة الفنادق، وشركة سياج طابا. ادعى سياج وشريكته أن مصر قد أخلت بتعهداتها طبقا لاتفاقية ل الاستثمار الثنائية بين مصر وايطاليا، وذلك بأن مصر 1( فشلت في حماية استثماراتهم و2( فشلت في حمايتهم من التمييز ضدهم كمستثمرين أجانب و3( فشلت في توفير المعاملة العادلة والمتساوية لهم ولاستثماراتهم و4( فشلت في منحهم حماية متميزة طبقا لمبدأ «الدولة المفضلة» المذكور في اتفاقية الاستثمار الثنائية. تم البت في القضية لصالح وجيه سياج وشريكته أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي، وذلك استنادا لاتفاقية الاستثمار الثنائية مع ايطاليا، وتم تغريم مصر 74 مليون دولار بالاضافة للفوائد في 1 يونيو 2009، وهو ما يعادل آنذاك )بمعدلات الصرف في 2009( حوالي 415 مليون جنيه مصري، بالاضافة لتكاليف التقاضي التي كانت حوالي 6 مليون دولار، والفوائد. أهمية قضية سياج ليست فقط من حيث الخسارة الفادحة التي تكبدتها مصر، والتي تعد من أضخم مبالغ الغرامات آنذاك، ولكن أهميتها تنبع من أنها كشفت عن مخاطر عديدة تتضمنها اتفاقيات الاستثمار الثنائية، سنستعرض أهمها فيما يلي: جنسية المستثمر: الجزء الأكبر من قضية سياج تمركزت حول جنسية المدعي. فوجيه سياج كان أصا مصري الجنسية، ثم حصل على الجنسية الايطالية، التي استغلها في تقديم الدعوة ضد مصر. لذا، فقد كان الجزء الأكبر من القضية هو تحديد ما اذا كان سياج مازال يتمتع بالجنسية المصرية، أم أنه في كان في الوقت الذي ترجع اليه تفاصيل الدعوى قد انهى عاقته بمصر وأصبح ل ايطاليا. وكان الدفاع الأساسي لمصر في تلك النقطة أن وجيه سياج كان يستغل جواز السفر المصري وأوراقه المصرية في العديد من الأنشطة ولذلك، فهو مصري الجنسية ولم يتخلى عن جنسيته المصرية. ولك المحكمة قررت أن وجيه سياج كان قد تخلى عن جنسيته المصرية، وأصبح مواطنا ايطاليا بحكم القانون الايطالي، وبذلك فله الحق في رفع دعوى قضائية ضد مصر كمستثمر أجنبي، واستنادا لاتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر وايطاليا. اذن، فاثبات جنسية سياج الايطالية هي الأهم في تلك القضية، لأنه الأساس الذي يتحدد به اختصاص محكمة الاستثمار الدولية في نظر تلك القضية، وهو أيضا ما يشير الى الميزة الهائلة التي يتمتع بها المستثمر الأجنبي مقارنة بالمستثمر المصري. فالمستثمر المصري في مصر يجب أن يحترم القضاء المصري، وأن يقدم أي دعاوى أو تظلمات من خال القضاء المصري، أما المستثمر الأجنبي فا يحتاج حتى أن يمر بالقضاء المحلي، ومن حقه أن يتجه للمحاكم الدولية ويفرض على مصر أن تخضع للسلطة القضائية للمحاكم الاستثمارية، وكل هذا بحكم اتفاقيات الاستثمار الثنائية فقط. تعريف المستثمر والاستثمار: من الأمور التي تثار دوما في اعتراض الدول والاقتصاديين على اتفاقيات الاستثمار الثنائية، هو التعريف الواسع والمطاط للمستثمر والاستثمار. فغالبية الاتفاقيات الثنائية لا تتضمن تعريف لاستثمار وللمستثمر، وهكذا تنطبق على عدد واسع من الحالات والقضايا. وبحكم أن محاكم الفض في النزاعات الاستثمارية لا يحكمها الا تنفيذ بنود اتفاقية الاستثمار الثنائية، فهي تبع هذا التعريف الواسع المطاطي. وقد كان هذا التعريف الواسع واضحا جليا في قضية سياج، حيث حكمت المحكمة أن شراء سياج وشريكته لأسهم في شركات، وشراكتهم في مشاريع مختلفة مع آخرين يعد استثمارا، وهنا أكد الحكم أن «اتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر وايطاليا كمثياتها من الاتفاقيات الثنائية تتبع تعريف واسع لاستثمار... وهكذا فما لل تتناوله القضية يعد استثمارا» حتى وان كان رأس المال المستثمر والمعدات والموارد المستغلة في الاستثمار أصلها من مصر وليس ايطاليا. تخطي القضاء المحلي وتجاهل أحكامه: من أهم الأمور التي تنفرد بها القضايا الاستثمارية هي تخطي القضاء المحلي. فالقانون الدولي بشكل عام يتبع مبدأ استنفاد سبل الانتصاف المحلية، وهو الذي يقتضي من أي مدعي أن يتجه للقضاء المحلي أولا، وأن يستنفد كل الاجراءات القانونية المحلية الممكنة، بما فيها تقديم الشكاوى وتقديم القضايا والدعاوى والاستئناف. ويوجب القانون الدولي على أي مدعي أمام لجان أو محاكم دولية أن يثبت استنفاد سبل الانتصاف المحلية أولا قبل قبول دعوته. أما اتفاقيات الاستثمار الثنائية فهي تخرج تماما عن هذه القاعدة، حيث يسمح للمستثمر الأجنبي بموجبها تخطي القضائ المحلي، وتجاهل سبل الانتصاف المحلية، بل وتلغي أي أحكام قائمة في القضائ المحلي، كما لو لم تحدث. وهو ما ترتب عليه مثا أن مصر تقاضى اليوم دوليا بشأن العديد من القضايا التي اتم البت فيها بالفعل أمام القضاء المحلي المصري، وأهمها قضايا بيع الأراضي )كقضايا الفطيم وداماك المعتمدة على اتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر والامارات العربية المتحدة( وقضايا الخصخصة )كقضية غزل شبين والتي رفعها المستثمر الهندي عن شركة اندوراما استنادا لاتفاقية الاستثمار الثنائية بين مصر والمملكة المتحدة(. وبالرغم من أن القضاء المصري قد حكم بفساد تلك الاستثمارات من حيث فساد العقود أو فساد عمليات البيع والشراء، الا أن المحاكم الدولية لا تهتم بالفساد ولا بمبادئ العدالة، بل تتمركز اجراءاتها حول تنفيذ الاتفاقيات الثنائية، التي بدورها تعني بحماية المستثمر في كل الأحوال، حتى وان ثبت فساد استثماره. وهكذا، فمن المهم تذكر أن قضايا الاستثمار الدولية لا تستند لمبادئ العدالة، بل تستند لما جاء في الاتفاقية حرفيا، وهكذا فالمحاكم المتخصصة في فض تلك النزاعات لا تهتم بالعدالة التي نعرفها ونسعى لها، بل تهتم فقط ببنود الاتفاقية التي تقتضي توفير الحماية المميزة للمستثمر في كل الأحوال. تكاليف التحكيم الباهظة واجراءات طويلة: قد يدعي البعض أن المستثمرين الأجانب يتوجهون للمحاكم الدولية بسبب بطء الاجراءات القانونية في العديد من الدول انامية ومنها مصر. الا أن هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، حيث أن متوسط فترة التقاضي التي تحتاجها المحاكم الدولية لفض نزاعات الاستثمار تقدّر بحوالي 3.6 سنوات! فعلى سبيل المثال تعد قضية «سوثيرن باسيفيك للعقارات - الشرق الاوسط» ضد مصر )وهي القضية رقم: 3/84/ARB( من أطول قضايا التحكيم الدولية، حيث استغرقت القضية حوالي 7.7 سنوات! اذن فالمستثمرون الأجانب عندما يتجهون للتحكيم الدولي، فهم يتوجهون من أجل الامتيازات الغير عادية التي توفرها لهم تلك المحاكم المعنية بحماية المستثمر فقط، ولاستفادة من الحماية الغير عادية ل التي توفرها لهم اتفاقيات الاستثمار الثنائية. من الجدير بالذكر أيضا أن تكاليف التحكيم الباهظة تعد من أهم التحديات التي تفرض نفسها على الدولة الموقعة على اتفاقيات الاستثمار الثنائية. فبحكم تلك الاتفاقيات الثنائية تجبر الدولة للمثول أمام محاكم الاستثمار تلك، مما يترتب عليه تكاليف مرتفعة جدا، حتى وان تمت التسوية في نهاية المطاف. متوسط التكاليف لهذة الدعوات تتراوح ما بين مئات الآف الي المايين من الدولارات. على سبيل المثال، مصر دفعت حوالي 6 مليون دولار في قضية رقم ل 15/05/ARB المقدمة من سياج كرسوم للمحكمة فقط، وفي نفس القضية السابق ذكرها دفعت مصر حوالي 74 مليون دولار بالإضافة الى الفوائد السنوية )حوالي %6( كتعويضات لشركة سياج بسبب حكم المحكمة لصالح الشركة الإيطالية. فرض تنفيذ الأحكام: على عكس كل الاتفاقيات الدولية الأخرى، تتضمن العديد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية مواد تفرض على الدولة تنفيذ الأحكام. فبالرغم من أن الدول لهم سيادة ومن حق أي دولة الاحتفاظ باستمتاع بتلك السيادة كاملة، الا أن مصر وغيرها من الدول قد تخلت بموجب العديد من اتفاقيات الاتستثمار الثنائية عن جزء هام من تلك السيادة، واختارت الموافقة على قواعد غير عادلة بالدخول في تلك الاتفاقيات الثنائية. ففضا عن أن مصر مجبرة بموجب تلك الاتفاقيات الثنائية على المثول أمام المحاكم الدولية، فان مصر مجبرة على احترام احكام تلك المحاكم، حتى وان خالفت أحكام القضاء المحلي المصري، وحتى ان خالفت أبسط قواعد العدالة مصر ثالث أكثر دولة تقاضى دوليا على مستوى العالم يوجد عدة محاكم دولية متخصصة في قضايا الاستثمار و من أهمها: لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي UNCITRAL((، غرفة التجارة الدولية )ICC(، مركز القاهرة الإقليمي التجاري الدولي، غرفة ستوكهولم التجارية، محكمة الاستثمار العربية وأخيرآ وليس اخرآ المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID(( وهو التابع للبنك الدولي. ومن الجدير بالذكر، أن معظم الدعاوى القضائية المقامة ضد الحكومة المصرية هي من خال المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، التابع للبنك الدولي. تتبع المحاكم الدولية المتخصصة في الاستثمار قواعد مختلفة في اتاحة المعلومات عن القضايا المقدمة، ولكنها كلها تتسم بالسرية بشكل عام، وان تفاوتت درجات السرية من محكمة لأخرى. لذا، فالدعاوى المعروفة ليست بالتأكيد كل الدعاوى، ولكنها الدعاوى التي تم نشرها من قبل المحاكم المتخصصة. ولعل سرية تلك المحاكم وتلك الاجراءات مرتبطة بشكل وثيق بسرية الاتفاقات الاستثمارية الثنائية، مما يثير تساؤلات عديدة حول فائدة تلك المنظومة للدول وخاصة الدول النامية والتي هي الأكثر تضررا من تلك المنظومة الغير عادلة. نتج المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار عن معاهدة متعددة الأطراف وضعتها الادارة التنفيذية للبنك الدولي للإنشاء والتعمير التابعة للبنك الدولي. وقد فتح باب التوقيع علي المعاهدة في 18 مارس 1965 ودخل حيز النفاذ في 14 أكتوبر.1966 ويهدف هذا المركز الي إزالة العوائق الرئيسية التي تواجه المستثمرين، وتتمثل هذة العوائق طبقا لمعاهدة البنك في عدم وجود هيئات متخصصة لتسوية المنازعات الاستثمارية، لذا فالسبب المعلن من اتاحة هذا المركز الدولي هو اتاحة المساحة المطلوبة من قبل المستثمرين الأحجانب في أي دولة لمباشرة أعمالهم و تولي حقوقهم. من المفترض هنا اذا أن ضمان حقوق المستثمرين سيشجع الاستثمار المباشر. ولكن كل تلك الفرضات أثبتت عدم صحتها. فالمستثمر الأجنبي في أي دولة من حقه اللجوء للقضاء المحلي في تلك الدولة. كما أن أي مستثمر، قبل بدء الاستثمار في أي دولة أجنبية، يدرس مناخ الاستثمار ونزاهة القضاء بها، ثم يقرر ما اذا كان سيستثمر فيها. لذا ففرضية أن التحكيم الدولي يزيد من فرص الاستثمار الاجنبي غير صحيحة، خاصة لأن معظم الدول الآن لديها اتفاقيات ثنائية، لذا فالميزة النسبية للدخول في تلك الاتفاقيات هي من حظ المستثمرين الأجانب فقط، الذين تحرروا من أي شروط وقواعد لاستثمار الصالح، وأصبح لهم القدرة على استغال التقاضي الدولي في أي وقت لتحقيق مكاسب خيالية، حتى وان ثبت لل الفساد في استثماراتهم. محاكم الاستثمار الدولية تضع كل من الدول والمستثمرين الأجانب في موقف مضاد لبعضهم البعض، حيث تحاول الدول الخروج من هذة القضايا بأقل خسائر ممكنة، في حين أن المستثمرين يسعون لتحقيق أكبر ربح ممكن. مصر من ضمن اكثر الدول المقام ضدها دعاوي قضائية في المحاكم الدولية لاستثمار. بغض النظر عن اختاف المصادر، تكون لمصر دائمآ من ضمن أول عشرة دول. تقرير الأونكتاد لعام 2012، على سبيل المثال، يضع مصر في المرتبة السابعة باجمالي 17 دعوة قضائية تاريخيآ.33 في دراسة أجراها عدد من المتخصصين والباحثين في كلوير اربيتراشين ) )Arbitration Kluwer تبين أن مصر تحتل المركز الثالث بعد الأرجنتين وفنزويا فقط، باجمالي 17 دعوة قضائية ايضآ. أما المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، فهو يبين أن يوجد 22 دعوة قضائية ضد مصر في هذا المركز فقط. الجدير بالذكر إنه يوجد على الأقل عشرة دعاوي قضائية ضد مصر منذ ثورة يناير 2011 مما كان يضع مصر من ضمن أول أربعة دول في خال أعوام 2011- .2013 آخرهم كانت ثلااثة دعاوى مقامة من أسامة الشريف ودعوى مقامة من شركة APA الايطالية، كما يبين الجدول المرفق في نهاية التقرير. من الدعاوى الهامة بعد الثورة هي دعوى شركة فيوليا الفرنسية متعددة الجنسيات ضد مصر، والتي كان من ضمن ادعائاتها العديدة أن تطبيق الحد الأدنى للأجور في مصر سيضر باستثماراتها، وسيمثل خرقا لتعهدات مصر في اتفاقيتها الثنائية مع فرنسا.. اذن، فبحكم اتفاقيات مصر الثنائية التي تفوق المائة اتفاقية، يجب على مصر أن تستأذن من أي مستثمر أجنبي ينتمي للدول المئة التي تربطها بمصر اتفاقيات استثمار قبل أن تعدل أي تشريع أو تطور من سياساتها المحلية. فأين اذن السيادة المصرية في اتخاذ القرار؟ وأي فرصة لدى مصر ومثياتها من الدول النامية المكبلة لتعديل تشريعاتها وسياساتها استجابة لمطالب الشعب لواحتياجات الاقتصاد المحلي؟ يوجد حوالي 11 دعوة قضائية سارية و 11 تم الفصل فيهم من خال المركز الدولي لتسوية المنازعات )لتكون مجموع الدعاوي 22(. في ال11 دعاوي التي تم الفصل فيهم، المحكمة حكمت لحق المدعي عليه )مصر( في اثنين منهم و لحق المدعي )المستثمر الأجنبي( في أربعة وتم تسوية الدعاوي الباقية من خال تقسيم مصروفات المحكمة بين المدعي والمدعي عليه. ولكن المشكلة الأكبر أن هذة الدعاوي مكلفة حتى في حالة عدم خسارة مصر، لأن المحكمة تفرض رسوم ضخمة للغاية على كل من المدعي والمدعي عليه كما سبق وذكرنا. المخرج من القيود: مخرج مصري في اطار دولي هذة الاتفاقيات تفتح المجال وتعطي الحق للمستثمر أن يلجأ الى محاكم دولية لضمان حقوقة بغض النظر عن قوانين الدولة التي يتم فيها الاستثمار. للأسف، هذا السيناريو يؤدي الى تمكين المستثمر من أن يأخذ وضع الضحية في أي نزاع، وعندما يلجأ الى التحكيم الدولي، تتسبب شروط الاتفاقيات الثنائية المتحيزة الي حماية المستثمر في تحمل الحكومة مسؤولية دفع الغرامات التي تصل إلى المليارات. كما أن لاتفاقيات الاستثمار الثنائية دورا مباشرة في تقييد قدرة الدولة على صنع السياسات التنموية واتخاذ القرارات خاصة فيما يتعلق بحماية حقوق العمال، والأجور والسياسات التنموية.. بالاضافة الى ذلك، هذه المعاهدات لديها العديد من الأبعاد الأكثر تعقيدا مثل الأحكام التي تحد من قدرة البلدان النامية على حث المستثمرين الأجانب على توظيف العمال المحليين، أو تدريبهم، ونقل المعرفة والتكنولوجيا اليهم، مما يعرقل من محاولات الدولة لتوسيع المدخات المحلية. كل هذا يحول دون استفادة الدولة من الاستثمار وتحقيق الدولة لواجباتها اتجاه مواطنيها. وبالتالي، يبدو أن مصر ينبغي عليها اعادة النظر وتقييم التأثير المباشر والغير مباشر لهذة الاتفاقيات الثنائية، علما بأنه ليس من المستحيل لدولة أن تبدي اعتراضها على النظام الاستثماري الدولي الحالي، فهذا ما رأيناه من العديد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا وأستراليا وغيرها. فنظرا للتكاليف العالية للتحكيم والقيود التي فرضت على القدرة التشريعية للدول الأعضاء في مثل هذة المحاكم، ليس من الغريب أن العديد من الدول بدأت في الاعتراض على نظام التحكيم الاستثماري الحالي. دول أمريكا اللاتينية بالأخص من أكثر الدول المعترضة على النظام الاستثماري الدولي لأنهم من أكثر الدول تأثرآ بهذا النظام، وهناك سبل مختلفة استغلتها تلك الدول من أجل استعادة سياسدتها والخروج من قيود النظام الاستثماري الحالي. على سبيل المثال، استخدمت الأرجنتين ثغرة قانونية في ميثاق معاهدة المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمارية في مصلحتها وهي المتمثلة في مادتي 53 و54، وهو المواد التي ترجتمها الأرجنتين لتعني أن للدولة الحق أن تشترط على المستثمرين أن ينجحوا أولآ في تقديم الدعاوي القضائية الخاصة بالاستثمار في المحاكم المحلية قبل أن تنفذ الدولة سداد التعويضات التي حكم بها المركز الدولي. وهكذا نجحت الأرجنتين في الهروب من تنفيذ أحكام المحكمة الاستثمارية ضدها بشكل قانوني. المعارضة لا تقتصر على بلدان أمريكا الاتينية، فمنذ عام 2011، والحكومة الأسترالية لم تعد تناقش أحكام متعلقة بتسوية المنازعات الاستثمارية بين المستثمر الأجنبي والدولة في اتفاقياتها التجارية مع دول أخرى. وفي عام 2012، أنهت جنوب أفريقيا معاهدتها الاستثمارية مع بلجيكا بعد خسارتها في قضية ضد شركة بلجيكية، كما بدأت في مراجعة مواد الاتفاقيات الثنائية المختلفة، وذلك من أجل تلافي أخطاء الماضي وتصحيح المواد الغير عادلة. هذه الحكومات تمهد الطريق لإصلاح نظام التحكيم الاستثماري وذلك من أجل الخروج من النظام الظالم المفروض، وخلق نظام جديد يحترم العدالة، ويحترم الدولة وسيادتها، ويعترف بالاستثمار الأجنبي كمصدر مهم استراتيجي للتنمية، طالما احترم قواعد الدولة ولم يطمع في مواردها بشكل غير قانوني. بعد دراسة الدعاوي القضائية المقامة ضد مصر والنظر في بعض تجارب دول أخرى، يتضح أن الاداة التي تمكن المستثمر الخاص في اللجوء الى المحاكم الدولية هي المعاهدات الاستثمارية الثنائية نظرآ للحوافز الكثيرة المضمونة في هذه المعاهدات. للأسف يتم إستغلاال هذة الحوافز ويتحول الأمر من تشجيع للإستثمار الى ربح للمستثمر على حساب الدولة والشعب. فهذا يقودنا الى أن نتسائل إذ ما كانت لدينا خيارات.. ولأن العديد من الدول الأخرى قد بدأت في تمهيد الطريق بالفعل لاستثمار أكثر عدالة، سواء من خال مراجعة هذه الاتفاقيات، ودراسة جدوى الدخول فيها، أو الغاء بعض الاتفاقيات الظالمة، أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام الظالمة، فيتعين على مصر أن تسير في نفس الاتجاه، وتنضم لتلك الدول التي فضحت عور تلك الاتفاقيات الظالمة، وقررت العمل من أجل الصالح العام. لهذا، فبعد قيام ثورة يناير كان من الأحرى على الحكومة المصرية أن تراجع تعهداتها الدولية، واتفاقياتها الدولية، وأن تحارب الفساد الذي يهدر مليارات الجنيهات سنويا، وذلك بدلا من التصالح مع الفساد والخضوع لتلك الاتفاقيات المجحفة.. بالاضافة الى ذلك، يجب على الحكومة المصرية أن تفتح المجال للمشاركة الاجتماعية في مثل هذه القرارات، وفي المفاوضات على أي اتفاقيات استثمارية أو تجارية، وأن تتضمن شفافية اتخاذ القرار، لأن الرقابة الشعبية ستظل هي الضامن الأول والأخير للنزاهة والحفاظ على الصالح العام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق