الدكتور عادل عامر
لقد نُحي القانون جانبا في حياة المصريين خلال العقود الماضية، ووجدت الآلاف من الأحكام القضائية التي لا يستطيع أصحابها تنفيذها للحصول على حقوقهم، مما أوجد نوعا من فقدان الثقة في النشاط الاقتصادي ومجتمع الأعمال.
لان حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها مصر خلال فترة الاحتجاجات ما بين 55 و 100 مليار جنيه (9,24 مليارات- 16,8 مليار دولار). أن تلك الخسائر قد تتضاعف، خصوصاً مع توقف العديد من القطاعات الحيوية ،السياحية منها والخدمات والمالية، مؤكدين أن التحدى الأكبر حالياً هو استعادة الثقة في الاقتصاد المصري من جديد ومع احتمال خروج بعض الاستثمارات الأجنبية من السوق أما الخسائر الناجمة عن أعمال العنف والشغب والتخريب، فقدرت بنحو 100 مليار جنيه في أسبوع واحد.
أن حصيلة خسائر قطاعات النقل المصرية ارتفعت إلى 15 مليون جنيه يومياً، وان الخسائر اليومية لمترو الأنفاق تبلغ مليون جنيه، أما خسائر السكك الحديدية المصرية فتبلغ 4 ملايين جنيه يوميا، فيما تبلغ خسائر الموانئ المصرية 10 ملايين جنيه يوميا.
أما القطاع السياحي فشهد خروج عدد كبير من السياح بلغ نحو مليون سائح، إلى جانب إلغاء الرحلات وانخفاض إشغالات الفنادق والقرى السياحية. وهو ما دفع القطاع لفقدان مايزيد على 1,5 مليار جنيه. كما أن قطاع الطيران المدني مني أيضا بالخسائر بعد إلغاء العديد من الرحلات بسبب حظر التجوال المفروض. أما المشهد السياحي فحزين، حيث ترى أهرامات الجيزة خالية من روادها، وعشرات الخيول تصطف إلى جوار أحد الجدران تأكل التبن بهدوء واسترخاء، والجمال الصغيرة تتمرغ في التراب دون اكتراث بما يحيط بها.
أما المتاجر والمقاهي فقليلة العدد التي مازالت مفتوحة، يطارد عمالها الذباب بعد أن اختفى الزبائن في محاولة من جانبهم لقتل الوقت.
وقد امتد تأثير الوضع في مصر إلى بورصات المنطقة التي سجلت في الأيام القليلة الماضية هبوطا كبيرا، وبدرجة أقل في البورصات الأوروبية والآسيوية والأميركية. ففي الساعات الأولى من التداول بالبورصة الأميركية انخفضت المؤشرات الثلاثة انخفاضا طفيفا، وعزا محللون أسبابه إلى ما يجري في مصر.
وقد هون دومينيك ستراوس مدير صندوق النقد الدولي من أثر الأحداث الجارية بمصر، قائلا إنه لن يكون لها تأثير بعيد المدى على الاقتصاد العالمي. أن مصر ليست من الدول النفطية الكبيرة، وان كان في سياق كلامه لم ينف الأثر السلبي على المدى القصير.
ناهيك عن الجانب الأهم وهو استثمارات دول المنطقة في مصر، والآثار المباشرة السلبية لهذه الاستثمارات. وتحديداً الاستثمارات السعودية والكويتية والإماراتية. فلهذه الدول العديد من الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، مثل بعض الشركات كصافولا وأعمار والخرافي وغيرها الكثير، مما سيؤدى إلى وضوح الأثر في الأجلين القصير والطويل وقد اتضح جزء من هذه الآثار في هبوط معظم أسعار أسهم هذه الشركات بمجرد بداية الأحداث في مصر وتأثيرها على أسعار الشركات المدرجة بأسواق الأسهم في هذه الدول وغيرها مع نجاح ثورة 25 يناير وتصحيحها في 30 يونيه ، تتطلع مصر إلى أداء اقتصادي مختلف، يجعل منها دولة قوية اقتصاديا. واقع يحقق آمال الشباب، الذي لا ينحصر فقط في تلبية مطالبهم في الحصول على العمل والخروج من دائرة الفقر، ولكن واقعًا جديدًا يجعل للأداء الاقتصادي لمصر وجها جديدا، يكرس مبدأ تقديم أهل الخبرة على أهل الثقة ويكبح الفساد، ويصنع إرادة سياسية واقتصادية، تستغني بها مصر عن المعونات ولا تخضع للتبعية أو وجود شبهة تأثير على قرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ولكي تتحقق هذه الأهداف لا بد من مجموعة من المحاور التي تصلح لبلورة رؤية إصلاحية ينطلق منها الاقتصاد المصري تضم المؤسسات المالية في مصر الجهاز المصرفي، وسوق الأوراق المالية، وشركات التأمين... الخ، وينبغي أن يعاد النظر في دور كافة هذه المؤسسات في ضوء إستراتيجية تنموية جديدة. فالجهاز المصرفيعن الائتمانائع تبلغ أكثر من 900 مليار جنيه، ويبحث عن مصادر لتوظيف نحو 48 في المائة منها ولا يجد، عليه أن يتجه لتمويل مشروعات إنتاجية مدروسة بشكل صحيح، وأن يقلل من سياسته الحالية المعتمدة على التجزئة المصرفية.
وكذلك الابتعاد عن الائتمان السياسي واسترداد قروض رجال الأعمال الذين حرصوا على عدم السداد، أو السداد من خلال تدوير القروض، وتهريب أموالهم للخارج. كما يتطلب الأمر عملية تمويل حقيقية للمشروعات المتوسطة والصغيرة. وفيما يخص سوق الأوراق المالية، التي يبلغ رأسمالها السوقي في آخر أيام التداول قبل إيقافها نحو 445 مليار جنيه مصري، فهناك مجموعة من الإجراءات والسياسات التي تعمل على تحويل البورصة المصرية إلى بورصة للاستثمار وليس للمضاربة، فيكبر فيها سوق الإصدار ويتضاءل سوق التداول، ويتم التوجه نحو الشفافية في التعاملات لجميع المتعاملين على حد سواء، وأن تلغي بعض التعاملات مثل البيع في نفس الساعة أو اليوم، وكذلك إلغاء بيوع المشتقات وأن تكون هناك ضرائب تصاعدية على أرباح المتعاملين بالبورصة وإن كانت بمعدلات صغيرة.
ختاماً لا شك إن أي تحول ديمقراطي في مصر يساهم في الإسراع في تعويض التداعيات الاقتصادية السلبية لهذه الانتفاضة فيعزز أداء الاقتصاد الكلي للدولة ويجذب الاستثمارات.
أما الأهم فيتمثل في إمكانية أن يؤدي إرساء دعائم فجر ديمقراطي جديد في مصر إلى تأسيس منظومة اقتصادية اجتماعية أكثر عدلاً على الأرجح بدلا من المنظومة الراهنة التي كرست وفق كثيرين أوضاعا شبيهة بما كانت عليه البلاد أيام عهد إقطاع ما قبل ثورة يوليو عندما كان يستحوذ نصف الواحد في المائة من السكان على حوالي 50 في المائة من ثروات البلاد.
كما نأمل أن تنخفض مستويات البطالة فيه كما الفساد، وطبعاً الفقر الذي يعتبر العامل الأقوى وراء تفجر هذه الثورة ، فأكثر من 50 في المائة من المصريين يعيشون بدولار أو دولارين في اليوم، وهذا يعني نصف الشعب المصري ليس لديه القدرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية الممثلة في المأكل والمشرب والمسكن. في الحقيقة لا توجد عصا سحرية في الاقتصاد تجعل المواطن يشعر بسرعة بمكتسبات هذه الثورة, ولكن على المدى البعيد يمكن أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية بصورة كبيرة، ويمكن إن يتحقق ذلك خلال السنوات الخمس القادمة إن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات مالية إصلاحية شاملة تعمل علي تدوير الموارد المتاحة لصالح الفقراء ومحدودي الدخل وأصحاب الدخول الأقل من الطبقة المتوسطة وتحقق موارد إضافية بنحو 130 مليار جنيه خلال العام القادم. وبحيث يتحمل الأغنياء وأصحاب الدخول المرتفعة العبء الأعظم منها في إطار سياسة لحفز النشاط الاقتصادي وإقرار توزيع أكثر عدالة للدخول وللفوائض المحققة في الاقتصاد مع التزام قاطع من الدولة بتوفير الحماية للطبقات الفقيرة والأولي بالرعاية والاهتمام بهم وبأولادهم من خلال برامج موجهة لخدمتهم.
أن الحكومة تستهدف استخدام أدوات السياسة المالية في إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام بما يخدم تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية ويؤدي إلي إحداث نقلة نوعية في مستوي التنمية ومعيشة المواطنين.
إن حرص الحكومة علي الاستجابة الجادة لمطالب تحسين الخدمات العامة وتوفيرها بكرامة للمواطنين. والالتزام بالاستحقاقات الدستورية الخاصة بزيادة الإنفاق العام علي الصحة والتعليم والبحث العلمي بنحو 120 - 140 مليار إضافية عن المستوي الحالي للإنفاق علي هذه القطاعات. وذلك علي مدي السنوات الثلاث القادمة.
مع ضرورة مشاركة الجميع في وضع خطط وبرامج الإصلاح وتنفيذها. ليتحمل مسئوليته ويؤدي واجبه الوطني المفروض عليه. وهو الأمر الذي دفع وزارة المالية إلي فتح حوار عام حول قضايا الإصلاح المالي والوضع الاقتصادي الراهن للبلاد. من خلال مدونة تشرف عليها الوزارة وتستقبل مقترحات المواطنين حول هذا الإصلاح.
لان تنشيط الاقتصاد والمساهمة في إيجاد حلول لمشكلات البطالة. وإصلاح دعم الطاقة. والأجور تمثل أهم القضايا التي ستركز عليها الوزارة خلال الفترة القادمة. لان الاهتمام بالمواطن المصري يأتي علي رأس التكليفات الصادرة للحكومة وأن التركيز سيكون للسياسات المالية ذات الصبغة الاجتماعية ولكن دون الإخلال بالتوازنات المالية.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق