Ads

حـســــن زايـــــد .. يـكـتـب : مــــولـــد وصــاحـبـــه غـــايــب

التاريخ له عبقه ، وبه ترتحل الحياة الفائتة إلي الزمن الحاضر ، تُقلب في أرجاءها كيف تشاء ، وتُعيد قراءتها ، وتُفكك أحداثها ، وتُعيد ترتيبها وتركيبها علي النحو الذي تحب  . صحيح أن ذلك لا يغير من وقائع ما فات ، ولا يعيد كرة الحياة علي نحو ما حدث ، وإنما هو مرجعية الأجيال اللاحقة لإعادة النظر فيما آلت إليه الحياة علي يد الأجيال السابقة ، سلباً وإيجاباً . والإفادة مما في غابر الأيام لما هو آت من قابل الأيام . ولما كان الإنسان كائناً له تاريخ ، فلابد أن يستفيد من تجارب غيره وتجاربه . والغبي هو من يكرر نفس الفعل ليقع في ذات الخطأ مرتين . وبون شاسع بين قراءة الحدث ، ومعايشته ، والتاريخ المقروء في طيات الكتب ، بخلاف ذلك التاريخ الحي ، الذي تعايشه بشحمه ولحمه ودمه ، فالإستقبال من حيث الإدراك والوجدان والنزوع يختلف . وقد عايشنا صغاراً تحطم الحلم الناصري / المصري علي أيدي الإستعمار الذي أبي الرحيل قبل أن يغرس في القلب منا رأس حربته إسرائيل . وقد تصورنا أيامها أو صُوّر لنا أن الصهاينة ليسو مجرد محتل لفلسطين ، وإنما عدو تاريخي / عقدي للإسلام والمسلمين . فكان وقع الهزيمة قاسياً ومميتاً . فلما مات عبد الناصر، تصور الخلق موت المُخلِّص الأوحد ، من الكابوس الجاثم فوق الصدور ، مانعاً عنا أسباب الحياة . من أجل ذلك بكاه الجميع ، وبكته مصر ، وبكاه العرب أجمعين . وقد جاء السادات كظل باهت للزعيم ، ظنه من ورث التركة الناصرية دُمية ، يمسك طرف خيطها من وراء ستار . ولم يعلق الشعب عليه أملاً سوي كونه قشة لاحت لغريق . فإذا بالظل الباهت يضع الورثة في السجون ، ويعلن ثورة التصحيح ، ويطرد الخبراء الروس ، ويراوح مكانه بمقولة سنة الحسم ، التي ألبت عليه الشعب ، وحصرت العدو في نشوة الضباب التي تحول بينه وبين ما يجري علي الأرض . ثم جاء الإنتصار مباغتاً في ظل خطة الخداع الإستراتيجي العبقرية ، كما كانت الهزيمة مباغتة ، إنتصار أبكتني نشوة متابعة بياناته . هناك من قال بأن القرار السياسي في المعركة لم يكن علي مستوي القرار العسكري ، إلا أن ذلك لا ينفي أنه أول انتصار للعرب منذ قرون . وقد خرج السادات من هذه الحرب زعيماً ، إلا أنه لم يكن انتصاراً يشفي الغليل ، ويروي ظمأ الرغبة في إعادة شذاذ الأفاق من حيث أتوا ، وتحرير الأرض كل الأرض . وقد كان الأمل معلقاً علي إعادة الكرة ، ولم يعد الأمر مستحيلاً كما كان في ظل نتائج اكتوبر . وقد كان التصور التاريخي العقدي ما يزال شاخصاً في القلوب . فإذا بالسادات يصدم الجميع بقرار زيارته للقدس ، هزني قراره بعنف ، ذهولاً ودهشة واعتراضاً ، إلا أن ذلك لم يمنعن من البكاء خوفاً منه وعليه ، خوفاً علي مصر . وقد كان تصور السادات منحصراً في استعادة سيناء دون حرب حتي تتفرغ مصر لمستقبلها الإقتصادي والسياسي . وقد كان التصور الحاكم للمزاج المصري هو التصور القومي  والديني الذي لا يقف عند تخوم الأرض ، وإنما يمتد إلي الوجود الصهيوني ذاته الذي يهدد الوجود العربي الإسلامي . وعلي قدر هذا التصور كانت الصدمة . وعانت مصر الحصار العربي بينما كانت مفاوضات السلام مستمرة حتي تم توقيع الإتفاقية في منتجع كامب ديفيد بأمريكا . وقد كان السادات يدفع بالأيام دفعاً إلي الأمام هروباً بمصر من الأزمات والحصار من ناحية ، وخشية ظهور عثرات أو عقبات في طريق تسليم إسرائيل لسيناء وفقاً للبرنامج الزمني من ناحية أخري . وقد كان المجتمع المصري يغلي في حينه غليان الماء في المرجل . وقد كانت القشة التي قصمت ظهر البعير «اعتقالات سبتمبر الشهيرة»  ، تلك التي قرر السادات القيام بها ضد ما تصوره أعداءه وخصومه المناوئين لتحركاته السياسية . وقد شملت الاعتقالات قائمة من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقانونية المعروفة من التيارات الفكرية والحزبية المختلفة كافة ، الناصري، والوفدي، والماركسي، والإسلامي، والمسيحي، والمستقل، ومن ليس محدد الاتجاه، إلى جانب غير المعروفين، إعلامياً، من الطلبة والأساتذة والصحافيين ومن لا يمكن تصنيفهم على أي مستوى. كانت هجمة بدت للجميع غير منطقية، وغير متوقعة، وغير مدروسة، وصفها البعض بالجنون، والحماقة، والتخبط في أقل التقديرات . وقد تركت  هذه القرارات في نفسي انطباعاً بأن السادات ينتحر سياسياً ، وأنه كمن دخل غرفة مشتعلة وأغلق الباب من خلفه . وقد كان مبرره في ذلك إسكات الأصوات المناوئة للسلام حتي لا يتخذها بيجن ذريعة للتسويف في تسليم بقية سيناء ، وأنه بمجرد استلام سيناء سيجري الإفراج عنهم . وكانت احتفالات اكتوبر علي الأبواب ، وكان السادات يستعد لها ، وفي ذات الوقت كان هناك من يستعد في الظلام لإغتياله يوم عرسه . إنهم أولئك الذين أفرج عنهم في أوائل حكمه ،  الإخوان المسلمون ، أفسح لهم الطريق لينسابوا في شرايين المجتمع ، حتي صارت فراخهم جوارح ، فانقضوا عليه يوم عرسه ، واغتالوه قبل أن يبلغ مراده ، ويحقق حلمه باستلام سيناء في 25 إبريل 1982 م . وغاب عن العيد صاحبه ، واحتفوا به في غيابه . رحم الله السادات رحمة واسعة .

0 تعليقات:

إرسال تعليق