الدكتور عادل عامر
لم يعد خافياً على أحد أهمية موضوع حرِّيَّة الرأي -بمختلف صورها - التي كانت ومازالت الشغل الشاغل للمجتمعات البشرية، لما لها من تأثير بالغ ومباشر على مجمل حياة الإنسان، ولسنا مبالغين لو قلنا: إن الحرِّيَّات بشكل عام وحرِّيَّة الرأي بشكل خاص كانت وما زالت وراء أغلب الصراعات والحروب والنزاعات المسلحة التي أودت بحياة الملايين من البشر بقصد نيلها والدفاع عنها والحفاظ عليها، وتتجسد أهمية حرية الرأي بكونها تمثل الاستجابة الطبيعية لحق الإنسان في التعبير عما تجيش به نفسه من مشاعر وآراء وقناعات يؤمن بها، وبدون التعبير عن تلك المشاعر وسواها ينعدم التواصل بين الفرد ومجتمعه من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى، مما يجعل الدولة عاجزة عن معرفة احتياجات المجتمع والفرد، ويظل هذا الأخير مصاباً بالإحباط والقنوط، وينعدم دوره في المشاركة الايجابية في عملية بناء المجتمع والدولة وتطويرهما في مختلف المجالات، كذلك لا يمكن تكوين رأي عام فعال من دون الاعتراف صراحة بحرية الرأي والتعبير مع ضمان الممارسة الفعلية لهذه الحرية بعيداً عن الضغط أو الإكراه.
هناك تجربتان ديمقراطيتان في الخليج، الأولى هي التجربة الكويتية، وهي تجربة بدأت منذ الستينيات الميلادية من القرن الماضي؛ والأخرى هي التجربة البحرينية التي انقطعت في السبعينيات الميلادية الماضية ثم عادت مرة أخرى في عام 2000 عبر مشروع إصلاحي قادة ملك البحرين. من الواضح أن برلمان البحرين لا يتمتع بالصلاحيات التي يتمتع بها برلمان الكويت؛ فمشاريع القوانين التي يعتمدها مجلس النواب البحريني، يتعيّن أنْ يقرّها أيضاً مجلس الشورى المعيّن، حتى تكون سارية المفعول. بيد أن هذا لا يقدح في الدور الحيوي الذي يلعبه البرلمان البحريني، وإنْ كانت هنالك حاجة لمساحة أكبر من الصلاحيات حتى يستطيع البرلمان مواكبة التحول السياسي المستمر في البحرين.
تقرّ المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بـ (حق كل مواطن في أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، وحقه في أن يَنتخب أو يُنتخب). وبذا تكون الإنتخابات حقاً أصيلاً لكل مواطن ومواطنة للمساهمة في إدارة شؤون الدولة. ويجب أنْ تستند المشاركة في الانتخابات إلى معايير موضوعية ومعقولة مثل: ضمان حق المواطنين في المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وإجراء انتخابات دورية نزيهة بموجب القانون؛ على أن تكون ممارسة الحق في الإنتخاب ممارسة فعلية وليست صورية. وينبغي أن تتخذ تدابير إيجابية للتغلب على صعوبات معينة من قبيل الأمية، والعوائق اللغوية، والفقر، أو ما يعيق حرية التنقل مما يحول دون تمكن الأشخاص المؤهلين للانتخاب من ممارسة حقوقهم بصورة فعلية. كما ويجب أن تُكفل للمتمتعين بحق الانتخاب حرية اختيار المرشحين؛ ولا يمكن تصور مثل هذه المشاركة الإنتخابية دون كفالة حرية التعبير والاجتماع وتكوين الجمعيات. من هنا تنبع أهمية المشاركة السياسية لجميع فصائل المجتمع دون اقصاء. فالانتخابات هي أهم آليات الاصلاح السياسي، حين تشارك فيها بفاعلية كافة القوى السياسية، وكافة شرائح المجتمع. أي إنّ قضية حقوق الإنسان والحريات في أوروبا جاءت كردة فعل على مظالم ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة كثيرة وقاسية وقعت في أوروبا على أيدي الاستبداد الكنسي بالدرجة الأولى، وهذا ما يفسر كراهة دعاة حقوق الإنسان لكل مصدر ديني، وكراهتهم لكل منافس لهم على حقوق الإنسان وبالأخص المصدر الديني ولو كان دين الإسلام، فيقول أحد المنظرين لحقوق الإنسان العالمية: (وتعكس المبادئ الاجتماعيّة والسياسيّة للإسلام اهتماماً قوياً بالخير والكرامة الإنسانية، ومثل هذا الاهتمام ضروري في حد ذاته، كما أنّه شرط ضروري لأفكار حقوق الإنسان، ولكنّه ليس معادلاً للاهتمام بحقوق الإنسان أو الإقرار بها). هذه الرؤية والموقف من دور الدين في الثقافة الإنسانيّة ليست موقفاً فردياً لهذا المؤلف أو الفيلسوف أو ذاك، وإنّما هي موقف فلسفي عام، تبنته الحضارة الغربيّة الدنيويّة: السيكيولاريّة هذه الرؤية والموقف من دور الدين في الثقافة الإنسانيّة ليست موقفاً فردياً لهذا المؤلف أو الفيلسوف أو ذاك، وإنّما هي موقف فلسفي عام، تبنته الحضارة الغربيّة الدنيويّة: السيكيولاريّة SECULARISM، ومعناها الدنيويّة أو اللادينيّة، والمترجمة ظلماً إلى اللغة العربيّة بالعلمانيّة كما سبق ذكره، ولذا ندعو إلى استعمال هذا المصطلح الثقافيّ إمّا بترجمته الصحيحة إلى اللغة العربيّة وهي الدنيويّة، وهو الأصل والأصوب، وإمّا باستعمال لفظه الأجنبي، أي "السيكيولاريّة" دون ترجمة، وبعد مدة من الاستعمال سوف يدخل مجال التداول الثقافيّ، مثل استعمال مصطلح الديمقراطيّة، ولكن ما لا يجوز هو استعمال ترجمة خاطئة أولاً، وبحجة شيوعها لعقود طويلة ثانياً، فما بني على خطأ لا بد من تصحيحه وعدم القبول به، وبالأخص من قبل علماء المسلمين وأدبائهم.
وأساس النظرة الدنيويّة الأوروبيّة تقوم على إعطاء المتدينين أو رجال الدين أو رجال الكنيسة أدواراً محددة في الظاهر، خارج الشؤون العامة للنّاس، وبالأخص خارج الشؤون العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وجعل دورهم في رعاية الطقوس الدينيّة الكنسيّة، والرعاية الاجتماعيّة المحدودة في ثلاثة أمور هي الولادة والزواج والموت. بينما التوجه الدنيويّ السيكيولاري يقوم على القيم المعرفيّة والعلميّة الماديّة، في كل مجالات الحياة الفرديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها، وقد نظم علاقته مع رجال الكنيسة على تنوع الأدوار وليس تبادلها ولا تعرضها، ولكنّه أيضاً رافض لأي هداية من قبلها أو من غيرها، أي إنّ السيكيولاريّة (العلمانيّة الأوروبيّة) أغلقت على نفسها باب الهداية الربانيّة، لأسباب كثيرة في مقدمتها معاناتها من التاريخ الديني الكنسي، ومخالفة المعتقدات الكنسيّة للعقل والعلم. لذا فإنّ كل قيم الحداثة الغربيّة القائمة على مبدأ العقلانيّة، ومبدأ الحريّة، ومبدأ الإنسانيّة، ومبدأ السكيولاريّة الدنيويّ، ومبدأ الفردانيّة، وغيرها، مثلت أفكاراً ماديّة مصلحية خالية من الروح والهداية والرحمة والتسديد، هذه المبادئ الماديّة الجافة لم تضمن للشعوب الأوروبيّة والأمريكيّة ومن قلدها، لم تضمن لها السعادة الحقيقيّة، ودفعت الحياة الأوروبيّة إلى الحروب العالميّة، وأدت إلى المظالم الاجتماعيّة والانتكاسات الأخلاقيّة، والتدهور الحضاري، والنهب الاقتصاديّ لشعوبها وشعوب العالم كافة، حتى أخذوا يبحثون عمّا بعد الحداثة أو عمّا وراءها، بالرغم مما أحدثته من وفرة اقتصاديّة ورفاهيّة اجتماعيّة وتقدم تكنولوجيّ. تلك كانت بداية التجريف السياسي في مصر، والذي استمر منذ ثورة 23 يوليو إلى ثورة 25 يناير، وإن تغيرت الأساليب والأسانيد وتباينت درجات وشدة التجريف.
لقد كان نضوب التربة السياسية وفقدان الأمل في إمكانية إحيائها بعد طول موات واحد من أهم الأسباب لسعي المصريون لإسقاط نظام أقصاهم عن السياسة وأبعدهم عن تسيير أمور حياتهم. ولن نطيل على القارئ الكريم في تعداد وتفصيل أدوات النظام السابق في تجريف السياسة، فهي معروفة لنا جميعاً وعايشناها كلنا يوماً بيوم، فضلاً عن أننا سنتطرق إليها بتفصيل أكبر في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب. إلا أننا نود التنويه من البداية إلى أنه وعلى الرغم من تطابق الإستراتيجية السياسية لعهد الرئيس السابق مبارك مع من سبقوه من رؤساء، إلا أن التكتيكات والأدوات التي استخدمها النظام خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة اختلفت بعض الشيء عن سابقيه. فهذا النظام كان أكثر ماكيافيلية ودهاءً عن سابقيه، فلم يعتمد على الكاريزما الطاغية للزعيم الخالد، ولم يقصي كافة أطراف اللعبة السياسية عن المشهد السياسي كاملة، ولم يزج بهم جميعاً في مجاهل المعتقلات، ولم يتحجج بأزمات إقليمية أو احتلال أجنبي أو استعمار عالمي لتعليق الحياة السياسة بالكامل، كما لم يرفع شعار كشعار "دولة العلم والإيمان" توظيفاً للدين لترسيخ شرعيته، وإنما حاول أن يرسم صورة لدولة المؤسسات التي تُمارس فيها مظاهر الديمقراطية وإجراءاتها، دون أن تمتد هذه الممارسة إلى جوهر الديمقراطية ومضمونها الحقيقي بما يشكل تهديداً حقيقياً للنظام ولبقائه. فقد انتهج النظام منهجاً يقوم على منح مساحة محدودة من حرية الحركة لقوى المعارضة للعمل السياسي الميداني، بالإضافة إلى إتاحة هامش من حرية الرأي ليقوم هؤلاء بالتعبير عن آرائهم المنتقدة للنظام.
كاتب المقالدكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق