Ads

حـســـن زايـــــد .. يـكـتـب : الــخــبز والـديـمـقـراطـيـة

قد يبدو الجمع بين الخبز والديمقراطية في جملة مفيدة نوعاً من العبث ، أو الترف الذهني . لأنه لا علاقة بين الخبز والديمقراطية . فإذا كان الخبز لغةً هو اسمٌ لما يُصنعُ من الدَّقيقِ المعجونِ المنضَج بالنار، فإن الديمقراطية لغة شكل من أشكال السلطة والحكم يعود فيه القرار إلى الشعب ، وَيتمتع في جوه كل مُواطن بحقوق المواطنة كامِلة : الحرية والمساواة وَالعدل وَحق إِبداء الرَأي . وإذا كان الخبز اصطلاحاً هو تعبير عن الحاجات الإنسانية عموماً ، فإن الديمقراطية هي حاجة من الحاجات الإنسانية كذلك . وقد ذهب ماسلو إلي أن الإنسان يشعر بالاحتياج لأشياء معينة، هذا الاحتياج يؤثر على سلوكه، لأن الحاجة غير المشبعة تسبب توتراً لدى الفرد فيسعى للبحث عن إشباعها .  ورغم الإنتقادات التي وجهت إلي هرم تسلسل الحاجات لماسلو ، إلا أن النتائج التي خرجت بها نظريته لا تخلو من وجاهة . ومن هذه النتائج أن الاحتياجات تتدرج في شكل هرمي يبدأ بالاحتياجات الأساسية اللازمة لبقاء الفرد ثم تتدرج في سلم يعكس مدى أهمية هذه الاحتياجات بالنسبة لهذا الفرد . وبالنظر إلي هرم الإحتياجات سنجد أنه يبدأ بالحاجات الفسيولوجية المتمثلة في الحاجة إلي التنفس ، والحاجة إلي الطعام ، والحاجة إلي الماء .. الخ . باعتبارها حاجات لازمة للحفاظ علي وجود الفرد . ثم تلي هذه الإحتياجات في الأهمية  حاجات الأمان . وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التسلسل بقوله تعالي : " الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف " وقوله تعالي : "  ضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " . إذن فهناك ترتيب وتسلسل لحاجات الإنسان ، ولا يمكن وضع الحاجات في حالة تعاند وتناقض بحيث تنفي حاجة ما وجود حاجة أخري . وإنما يتم زحزحة حاجة ما لصالح حاجة أخري أولي بالإشباع . فتتقدم إحداهما في الإشباع عن الأخري . فلو كان الخيار بين الخبز والديمقراطية بحسب الأهمية لجري منطقياً اختيار الخبز باعتباره أولي بالإشباع ، وإزاحة الحاجة إلي الديمقراطية قليلاً ، فالأولي حاجة فسيولوجية لازمة للحفاظ علي وجود الفرد ، بينما الديمقراطية حالة إجتماعية تلي الحاجات الفسيولوجية في الترتيب . فلو تفهمنا ذلك بعيداً عن الشعارات السياسية لأمكننا بسهولة تحديد أولويات المرحلة بالنسبة لمصر بعيداً عن التشنج المذهبي ، والتنظير الأكاديمي . فإذا قلنا أن مصر في أمس الحاجة إلي الديمقراطية بعد سنوات الإستبداد والديكتاتورية التي عاشتها ، فلابد أن نقول ذلك في السياق الإقتصادي والإجتماعي الذي تعيش فيه مصر وليس بمعزل عنه . أما أولئك الذين لا يدركون ـ ولا يرغبون في إدراك ـ أولويات المرحلة التي تمر بها مصر ، ويصرون علي الزحف في  اتجاه واحد ، ويصرون علي سحب البلاد والعباد في هذا الإتجاه ، بزعم أن الثورة قد قامت من أجل تحقيق الشكل الديمقراطي وفقاً للـ : " الكتالوج الغربي " . هذا " الكتالوج " الذي يعطون نصوصه من القداسة ما يتناقض مع جذور فلسفتهم في محاربة القداسة باعتبار أن الديمقراطية هي نتاج الفكر الليبرالي . هذا الفريق من المفكرين يضع المجتمع كله علي محك مع أو ضد ، دون الأخذ في الإعتبار للجوانب النسبية الناجمة عن اختلاف العوامل المؤثرة  . ففي العلوم الإنسانية لابد من افتراض ثبات العوامل الأخري المؤثرة . فالديمقراطية الغربية بصورتها الراهنة ـ مع تجاهل مراحل تطورها التاريخي ـ صالحة للتطبيق في  مصر ، مع فرض ثبات العوامل الأخري . فإن لم تكن هذه العوامل ثابتة ، إحداها أو كلها ، فإن التطبيق القسري يكون ضرره أكثر من نفعه . ليس معني ذلك رفض الديمقراطية ، وإنما تهيئة العوامل الأخري التي تجعل التربة المجتمعية صالحة لغرس نبتة الديمقراطية علي نحو يجعلها تنمو نمواً طبيعياً فتؤتي ثمارها المرجوة . أما الولادة المبتسرة لتلك النبتة في ظل عدم وجود حاضنة صحية فلا ريب أنها ستفضي إلي موت الوليد . إذن فممارسة الزعيق في المشهد السياسي باسم الديمقراطية ليس المقصد منها الديمقراطية ، وإنما التشويش علي المشهد ، وشغل الناس بما يفقدهم التركيز علي أولويات المرحلة ، وتصوير المسألة باعتبار أن هذه الأولويات مصطنعة بقصد وأد الديمقراطية ، والقضاء المبرم علي حقوق الإنسان . فيدفع هذا التوجه الناس دفعاً إلي النفور من الوضع الحالي باعتباره وضعاً معادياً لمطالب الثورة وأهدافها ، وبالتالي الثورة عليه ومناهضته . فتدخل مصر في دائرة الثورات المتولدة من رحم بعضها البعض ، وهذا هو المستهدف ، فهذه الدائرة التي لا خروج منها ولا أمل فيها ستؤدي في النهاية إلي انهاك مصر ، واستنفاد قواها الفاعلة ، وإفشالها . وعلي ضوء ذلك لابد لنا من ترتيب الأولويات ، والعمل عليها ، بما يهيئ المناخ والتربة الإجتماعية والإقتصادية اللازمة للبناء الديمقراطي السليم ، بعيداً عن هواجس أن هذا النوع من التفكير هو الذي يفضي إلي الديكتاتورية وتأليه الحاكم ، لأن الدستور الحالي لمصر لن يسمح لهذا الديكتاتور بالوجود من حيث المبدأ .

0 تعليقات:

إرسال تعليق