سهير المصادفة
في موسكو، لم يُخلق بعد «ديما الأقرع» من استطاع تكذيب «فاديم إيفانوفتش» قط، فكل شيء فيه كان يدعو إلى تصديقه، لحيته الصفراء المهذبة، نظارته الذهبية ذات اليد موديل 1915، حركة يديه وهو يحكي والتي تشبه إلي حد كبير يدي مايسترو بارع، قامته المتوسطة الطول المرتبطة بشكل الكهنة علي مر العصور ــ فهل يعقل أن يتخيل المرء كاهنًا فارع القامة عريض المنكبين؟ القبعة الخريفية التي كان يرتديها صيفًا وشتاء ولو كانت درجة الحرارة 40 تحت الصفر، كل شيء فيه كان يدعو إلى تصديقه، وخصوصًا هدوءه العظيم وهو يلقى علينا أساطير وأهوالاً تختصر تاريخ روسيا بهزة صغيرة من رأسه وإيماءة بعينيه.
في يوم ما كان «فاديم إيفانوفتش» قد تصدر كعادته المائدة ورفع كأس فودكا ممتلئة وانتظر بوقار حتي صمت الجميع؛ فدعاهم إلي شرب نخب، وهكذا كانت تبدأ دائمًا حكايات «فاديم إيفانوفتش» كلها... قال:
كنت أمر وإثنان من الرفاق معي أثناء الحرب العالمية الثانية، وحاصرنا الأعداءُ في شارع يسده حائط ممتد أملس وليس لنا من مخرج، فالحائط أمامنا، والعدو خلفنا ونحن هالكون لا محالة، إلا أنني علي سبيل المزاح قلت:
ـــ فلنهد الحائط.
وعندما نظر الرفيقان بدهشة صرخت:
ـــ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعدد خيانة زوجتي لي.
فتزلزل الحائط واهتز بقوة وسقط منه حجر واحد، وصرخ رفيقي الأول مقلدًا إياي:
ـــ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعدد خيانة زوجتي لي.
فتزلزل الحائط واهتز بقوة وسقطت منه بضعة أحجار، عند هذا صرخ رفيقي الثاني:
ـــ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعدد خيانة زوجتي لي.
فارتج الجدار وكأن البركان تحته، وازداد اقتراب العدو منا أكثر، وهنا انهارت جميع الأحجار وسط زوبعة من الأتربة اختفينا فيها وعبرنا بسرعة عبر الجدار المهدم وارتبك العدو فنجونا.
وابتسم «فاديم ايفانوفتش» بهدوء ورفع كأسه عاليًا وقال:
ـــ أصدقائي، دعونا نشرب نخب النساء اللواتي ينقذن رجالهن وقت الشدة.
قهقه الحاضرون معجبين بالنخب ومصدقين مائة بالمائة أن هذا هو ماحدث بالضبط إلا «ديما» الشاب الأقرع فلقد انتفض كمن صدمته كأس الفودكا وقال:
ـــ ولكنني يا «فاديم إيفانوفتش» قد سمعت هذا النَخب من قبل، وهو نخب قديم يقال في أوكرانيا وبلاد روسيا وبُخار وسمرقند ولادفيا، والنَخب يحكي عن ثلاثة رجال نكرات فكيف كنت واحدًا منهم؟
فوقف «فاديم إيفانوفتشي» وبهدوئه نفسه قال:
ـــ يا للشباب المسكين! أو لا تعرف أنه يوجد ما يُسمي قطار وطائرة؟ وأنني عندما أسافر في هذا أو ذاك أشرب الفودكا وأجلس مع أناس أذكياء مثلك؟! وأنهم يتناقلون نوادري كما تناقلوا في الماضي أسفار التوراة؟ وأن الاتحاد السوفيتي قد قصر عليَّ المسافات؟ فالعامل في سمرقند له مهندس من «موسكو» والطبيبة من «أذربيجان» لها ممرضة من «ليننجراد»، ولكن أني لكَ أن تفهم يا فتاي وأنتَ تعاني الآن من نقط التفتيش الدولية بين «روسيا» و«بلاروسيا»! أتستبعد عليَّ يا فتي أن أكون واحدًا من هؤلاء الثلاثة؟ ألا تستحي وأنت تكذبني؟ وقال جملة (وأنت تكذبني) بعظمة ملك مجروح، كان فارسًا شجاعًا ودافع عن شعب بأكمله فولاه الشعب عليه.
ارتبك «ديما الأقرع» واستحي فعلاً حتي لاحظنا أن الأرض تميد من تحت قدميه وتبتلعه فلا يظهر في احتفالاتنا بالأعياد مطلقًا.. تلك الأعياد التي ظل يتصدرها كالعادة «فاديم إيفانوفتش»، يرفع كأسه، فنرفع كؤوسنا، ويدعو كل مرة لنخب وراءه حكاية.. قال:
ـــ وأنا يا أصدقائي في فترة من الزمان، كنت شابًا وسيمًا، فارع القامة، قوي العضلات، عندما ضاقت بي سبل الحياة وطارت كل السقوف من فوق رأسي، وأعياني البحث عن عمل، فيما قبل الثورة قررت أن اختبئ في دير علي حدود، موسكو حتي تنفرج الأزمة، ولكي أجد ما أتقوت به، وخرقات أحتمي بها، مرت حياتي في الدير هادئة، سلموني عباءة جميلة واسعة وقبعة لم ألقها من علي رأسي أبدًا، وأهم من هذا وذاك أنني كنت أحصل علي ثلاث وجبات يوميًا وكنت راضيًا مرضيًا متمنيًا أن يستمر هذا الدهر كله، فماذا خارج الدير سوي النساء، والنساء هن الأجمل.. نعم، ولكنهن مكلفات جدًا، ولا أنال منهن إلا وجع خصيتيَّ بالحرمان منهن أنا الفارغ اليدين والجيبين والمفقود الهوية، تعودت تدريجيًا البعد عن المعاصي، فمن ذاق مثلنا الجوع فيما قبل المساواة، يستطيع أن يتذكر يومًا واحدًا من أيامه ليستقيم في دير، تعبدت كثيرًا، واجتزت جميع اختبارات الروح علي الجلد، وفي يوم مشمس جميل من أيام الصيف صرت قسيسًا صغيرًا، ودعيت لمساعدة الأب في الصلاة علي ميت، قمنا بتلاوة الصلاة وإقامة الطقوس، وسرحني الأب لأعود إلي الدير وحدي لأنه سيتأخر قليلاً في تلك القرية، بالكاد أمسكت نفسي عن الصراخ فرحًا، فأنا الآن حر، قفزت، التويت كما أفعي، تمطيت ككلب حُبس طويلاً، شعرت أن العباءة تعوقني فخلعتها وخلعت القبعة أيضًا، وما أن عدوت أمتارًا قليلة حتي وجدتني وجها لوجه أمام بحيرة مهجورة من البشر، آية في الروعة، صرخت: أجمل بقعة في العالم أطراف موسكو، وأروع صيف صيفها، شجعتني الشمس فخلعت ما تبقي من ملابسي وضعتها معًا علي الشاطئ تحت حجر، ونزلت لأستحم عاريًا تمامًا. مرت ساعة أو ساعتان لا أدري، ولكنني خرجت من الماء والشمس حمراء قانية، وكنت أستغفر الله طوال الوقت لأنني وأنا أسبح لعنت الدير سرًا ولعنت لقمة العيش التي ادخلتني الدير، ثم انتبهت فجأة فنظرت إلي الحجر ساهمًا وصارخًا: ملابسي، أين الملابس؟ عار أنا تمامًا ولم يتركوا لي إلا القبعة التي وضعتها علي عورتي، أسترها، وأبحث في كل مكان علي الشاطئ، ظللت أعوي طوال الوقت كما تعلمت في الدير: إلهي.. إلهي.. لماذا تركتني هكذا؟ لا تعاقبني علي ما قلت بهذه القسوة، وركعت يأسًا، وفجأة ظهرت لي كوكبة من الفتيات اللائي يأخذن بالألباب، علي ما يبدو كنَّ من بنات العائلات الإقطاعية فيما قبل الثورة، يمرحن ويضحكن، ويعبثن بملابسي بأظافرهن، ظللت راكعًا، عيناي منكسرتان علي ركبتي العاريتين، أنا الذي لم ألمس امرأة بعد، استجديت منهن ملابسي كثيرًا، بكيت، وولولت، وتذكرت الشارع والجوع وثلج موسكو القاتل وألم عظامي المزمن.
صرختْ فيَّ إحداهن:
ــ قف.
فوقفت واضعًا القبعة بكلتا يدي علي عورتي ومحافظًا علي أن يكون ظهري للبحر.
عادت الفتاة تصرخ فيَّ مرة أخري قائلة :
ـــ إذا نفذت جميع أوامري بالحرف الواحد سنرد لكَ ملابسكَ.
قلت ومخاطي يسيل كجرو:
ـــ نعم، نعم.. سأنفذ بالطبع.
قالت:
ــ ارفع يدك اليمني وأرني ما بها.
فرفعت يدي اليمني وأمسكت القبعة بيدي اليسري وكأنني قابض علي روحي.
فإذا بفتاة أخري تعبث بي ضاحكة:
ـــ ارفع يدك اليسري وأرني ما بها.
فأمسكت القبعة بيدي اليمني، وكأنني قابض علي روحي، ورفعت اليسري.
عند ذلك عادت الفتاة الجميلة القاسية إلي الصراخ قائلة:
ـــ والآن يا هذا، أرني يدك اليمني ويدك اليسري معًا.. هيا.
تباطأت، وقع قلبي في بطني العاري.
فصرخت فيَّ قائلة:
ـــ هيا. هيا. هيا يا... هه.. رجل.
رفعت كلتا يديَّ ببطء وتركت القبعة مكانها وكأنني قابض عليها بروحي، وظللت هكذا مصلوبًا دقائق لا أعرف لها عددًا، صمتت الفتيات، وارتبكن وهن خجلات وفاتنات، وأخيرًا قذفتْ لي الجميلة القاسية ملابسي لتقع أمامي بخطوات، فظللتُ أبحلق فيها كأنها كنز من المجوهرات النادرة، ولكنني بقيت أحملق فيهن هكذا خائفًا أن آتي بحركة واحدة تنهي أمامهن أمري حتي انصرفن علي خيولهن وفي لمح البصر هويت علي ملابسي أرتديها وأنا لا أصدق أنني نجوت.
تقطعت أنفاسنا والتقطناها مع نجاته، بينما أومأ هو وبهدوء أكثر، وبصوت يفيض حنانًا وإخلاصًا وصدقًا رفع كأسه وقال:
ـــ هييه، يا رفاق، يا أصدقائي الأعزاء هيا بنا نرفع كؤوسنا، ونشرب نخب هذه القوة التي أبقت القبعة في مكانها، ويداي مرفوعتان. (لهو الأبالسة)
0 تعليقات:
إرسال تعليق