الدكتور عادل عامر
ان وضع سقف للدين العام فى مصر مثلما فعلت الولايات المتحدة أمر يصعب تحقيقه، حيث تصل نسبة العجز فى مصر ضعف معدل الناتج القومى، بينما نسبة العجز فى الولايات المتحدة تساوى نسبة الناتج القومى، وبالتالى يسهل وضع سقف للدين فى الولايات المتحدة. حتى مع وتيرة النمو النشط نسبياً لمصر، فإنه معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بما يفوق الـ80 في المئة وعجز الموازنة المرسوم بنسبة 6،8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2011/2012، لايمكن إدامتهما. فبدون سيطرة أكبر على العجز، ستبقى مصر عرضة للصدمات الداخلية والخارجية. ثم أن الحكومة قد تتعرّض لإغراء طباعة المال لتمويل نشاطاتها، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم استقرار في الاقتصاد الكلّي وارتفاع التضخم. إن الدين العام في مصر يُموَّل في معظمه محليا، فيما الدين الخارجي، لايُشكِّل، وفق معطيات المصرف المركزي، سوى 15-20 في المئة من إجمالي عبء الدين. ولذلك، فإن الدين له تأثير فوري على مدى توافر الأموال القابلة للإقراض طويل الأجل إلى القطاع الخاص، مايؤدي إلى استبعاد الاستثمار الخاص – وعلى وجه التحديد المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم التي قد تُواجه، على أي حال، صعوبات في الدخول إلى حقل الإئتمان. أن الاقتراض الخارجي يقدم أوجهاً إيجابية للاقتصاد المصري، والذي يحتاج هذه القيم بالوقت الحالي، ذلك فضلاً عما توضحه عمليات الاقتراض الخارجي من ثقة باقتصاديات مصر والتأكيد علي وجود القدرة لدي مصر للاقتراض من الخارج، وهو ما يؤكد قدرتها علي السداد، الأمر الذي يعد مؤشراً إيجابياً يوضح قوة مصر وجدارتها، لافتاً النظر إلي أن سلبيات عمليات الاقتراض الخارجي تظهر في حال زيادة هذه القروض عن إمكانيات الدولة علي السداد بصورة تؤدي إلي تعثر وعجز عن السداد مما قد يؤدي إلي سحب الثقة عن هذه الدولة، وهو ما لا نجده بمصر، والتي تستطيع التماسك علي الرغم من جميع الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها مؤخراً.
عمليات الدعم العشوائي للأسعار، خاصة سعر الوقود، تمتص قسماً كبيراً من إجمالي إنفاق الحكومة، ومشكلة العجز لايمكن حلّها دون معالجة هذه السياسات. فالدعم وسيلة مُبذِّرة وغير فعالة لمساعدة الفقراء المصريين؛ ثم أن معظم الفوائد تعود إلى الطبقة الوسطى والميسورين. وقد وجدت دراسة للبنك الدولي أن الميسورين المصريين حصدوا ضعف نسبة الدعم التي تلقاها الفقراء المصريون.
وبالتالي، إصلاح عملية دعم الوقود أكثر إلحاحاً وأكثر قابلية للتنفيذ سياسياً من العمل على عمليات أصغر بكثير لكنها فائقة الحساسية مثل دعم المواد الغذائية. والحال أن الحكومة الانتقالية تُدرك ذلك، وهذا يتجلى في قيامها بإجراء خفوضات صغيرة على دعم الوقود في الموازنة المعدّلة التي أُقرّت في حزيران/يونيو. هذه التغييرات ستقلِّص دعم غاز البيوتان إلى المستخدمين غير المقيمين، وتمد شبكة الغاز الطبيعي إلى بعض المصانع المستهلكة للبيوتان مثل مصانع الطوب. وتقدّر التوفيرات التي ستدرّها هذه الإجراءات بنحو 580 مليون دولار (5،3 مليار جنيه مصري) خلال السنة المقبلة.
بيد أن هذه الخفوضات هي خطوة صغيرة للغاية في الاتجاه الصحيح. ففي موازنة 2011/2012 المُعدّلة، تم رصد 8، 16 مليار دولار (5،100 مليار جنيه مصري) – أي أكثر من 20 في المئة من أجمالي إنفاق الحكومة و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي- لدعم الوقود والكهرباء؛ هذا في حين أن 6، 9 مليار دولار (2،57 بليون جنيه مصري) ستذهب لتمويل عمليات دعم ومنح أخرى، لايُمثِّل فيها دعم المواد الغذائية، وفق المركز المصري للدراسات الاقتصادية، سوى شطر صغير. وعلى سبيل المثال، في السنة المالية 2010/2011 ، بلغت الكلفة الإجمالية لدعم المواد الغذائية 3،2 مليار دولار (5، 13 بليون جنيه مصري).
إن استبدال الدعم التنازلي بنظام مساعدة يستهدف بشكل واضح الفقراء، قادر على تصحيح هذا التشويه ويمكن أن يُثبت أنه له جاذبية سياسية. فصانعو السياسة المصريون يمكن أن يتعلموا من تجارب بلدان أخرى- بما في ذلك الأردن (1991-1999) والمكسيك (1997) والهند (1997)- وهي دول استبدلت بنجاح الدعم العشوائي ببرامج بديلة مُصمّمة لتخفيف الفقر. بالطبع، مثل هذه الخطوة ستكون متّسقة مع الرغبة بتحقيق عدالة اجتماعية أكبر، وهي مسألة هامة للثورة. ويتعيّن على الإصلاحيين أن يضعوا بعين الاعتبار أن مختلف عمليات دعم الوقود تؤثّر بشكل مختلف على الفقر. وقد وجد تقرير البنك الدولي أن إلغاء دعم الوقود والغاز الطبيعي ستكون له تأثيرات ضئيلة فقط على الفقراء، إذ هو يزيد حالات الفقر بنسبة 15،0 في المئة. وفي المقابل، فإن الإلغاء الكلي لدعم الغاز البترولي المُسيَّل قد يرفع حالات الفقر بنسبة 4،4 في المئة. واستنتجت الدراسة نفسها بأنه إذا ماتم إلغاء الدعم بالتدريج، وإذا ماترافق ذلك مع تعزيز شبكة الأمان الاجتماعية، سيكون بالمقدور استئصال الزيادة في الفقر بالكامل.
يتعيّن على الحكومة المصرية أن تتحرّك نحو تحديد مجموعات الدخل المُنخفض وتوجيه الدفعات النقدية أو الدعم إليهم. ويمكن هنا استخدام وسائل عديدة لاستطلاع الموارد. والحال أن التدقيق في استهلاك الكهرباء هو أكثر التجارب أساسية، هذا في حين يمكن أن تتضمن تجارب مفصلة أخرى معلومات يتم جمعها من خلال وسيلة الإحصاء أو من خلال تطبيقات وفق الطلب.
في الماضي، كان الإصلاحيون يترددون في خفض دعم الأسعار تحسّباً لحملات القوى الراسخة التي هي المستفيد الأكبر من النظام الراهن. وهؤلاء ليسوا الفقراء، بل مستهلكو الطاقة الميسورين نسبياً والشركات المنخرطة بشكل مباشر في انتاج وتوزيع سلع الوقود والمواد الغذائية المدعومة. لكن من شأن حكومة جديدة حائزة على تفويض انتخابي أن تجد نفسها في موقف أقوى من الحكومة الانتقالية لمواجهة هذه القضايا الشائكة. أن زيادات أسعار الكهرباء للمصانع سينجم عنه معدلات عالية جدًا للتضخم، لأن المصنع سيحمل نسبة الزيادة للسلعة والخدمة مما سيؤدي لارتفاع كبير للأسعار بالفترة القادمة.
وفي ضوء هذه المؤشرات الايجابية وتحسبا لمخاطر استمرار زيادة العجز وتأثيره السلبي علي مناخ الاستثمار وانعكاسه علي زيادة ارقام الدين العام تنبهت الحكومة لهذه المخاطر واستهدفت في مشروع الموازنة 2011/2010 العودة الي تنفيذ برنامج لخفض عجز الموازنة عن معدلاته الحالية من متوسط مستهدف في حدود 5.8% من الناتج المحلي الاجمالي لينخفض الي أقل من 8% من هذا الناتج.
وهذا البرنامج يعطي الثقة اللازمة لرءوس الأموال المحلية والأجنبية في قدرة الاقتصاد المصري علي تجاوز تحديات الأزمة المالية خاصة أن الدولة تسعي لاستكمال خططها التنموية والحفاظ علي تسجيل معدلات نمو مرتفعة لا تقل عن 6% في العام القادم علي أن تصل الي ما يتجاوز من 8% الي 8.5% خلال السنوات القادمة، وما يتطلبه ذلك في الحفاظ علي معدلات انفاق عالية وضخ استثمارات جديدة تدعم هذه التوجهات، سواء من خلال تهيئة بيئة الاعمال المحلية لتشجيع الاستثمار من القطاعين الوطني والأجنبي ورفع معدلات الادخار المحلي لتحقيق هذه الأهداف.
وفي ظل تعهدات الحكومة بعدم تحميل الاجيال القادمة أعباء مديونيات ضخمة وفي نفس الوقت تحقيق التوازن المالي في موازنة الدولة من خلال خفض نسب المديونية المحلية الي مستويات آمنة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، تجتهد الحكومة من خلال مشروع موازنتها الجديدة لتطوير وتنويع برنامج الاقتراض الحكومي والحفاظ علي مستوياته عند معدلات آمنة بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي، وتقوم هذه الخطة علي عدة محاور منها ايجاد آليات مستحدثة في اطار اعادة هيكلة الدين العام وتحسين ادارته للتخلص من القروض عالية التكلفة بقروض أقل تكلفة وعلي مدي أطول. أن الاعتماد علي هذه القروض لن يكون بصورة مستمرة، ولكنه مؤقت حتي تصل مصر إلي حالة الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وأيضا الامني حتي تستطيع مصر تعويض العجز في الموازنة العامة للدولة، وهذا لا يتحقق الا بعد أن تسير عجلة الإنتاج إلي معدلها الطبيعي أو أكثر.
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق