Ads

هولندا رايح جاي


لما ضاقت زنازين بلجيكا بروادها، وتكاثرت الأنفاس والروائح بين جدرها المتقاربة، قررت الحكومة هناك أن تصدر الخارجين على قوانينها عبر الحدود. وفي عام 2009، قامت الدولة مشكورة باستئجار 500 زنزانة في أقرب السجون الهولندية إلى حدودها. واستطاع الأشقياء بموجب هذه الاتفاقية الغريبة أن يجدوا لجنوبهم أشبارا من الأرض تواري سوءاتهم وتحتضن آلامهم. واستطاع ذووهم عبور الأسلاك التي لم تعد شائكة مرة كل أسبوع  مقابل ثلاثين مليون يورو في العام الواحد. ومن يومها، تحول سجن تلبرج الهولندي إلى مزار سياحي ومصدر دخل رائع لحكومة لا تعاني من تضخم أو قلة في الموارد.
كانت زنازين هولندا تعاني من ضعف هائل في الإقبال على منتجعاتها الضيقة، وسجانوها مهددون بالطرد من أعمال لا يجيدون غيرها، في وقت ضاقت فيه زنازين بلجيكا بأشقيائها، ومن هنا بدت الحاجة ملحة لتعاون شاذ بين البلدين في مجال حقوق الشحن. وأنقذت الاتفاقية الموقعة ألفا ومئتي حارس وعائلاتهم من التشرد والحاجة. صحيح أن القيود في أيدي السجناء ظلت صناعة بلجيكية محضة، وإن قام على حراستها الهولنديون، لكن سجناء هولندا كانوا أوفر حظا من رفقائهم في سجون البلاد، إذ حرصت السلطات الهولندية على تقديم خدمات فندقية لنزلائها الغرباء.
لكن الأزمة الهولندية لم تنته بمجرد توقيع بروتوكول التعاون بين البلدين في مجال شحن وتوزيع السجناء، فقد تفاقمت حدتها في السنوات الأخيرة، حتى تعادلت نسبة الحراس والمساجين، فأصبح لكل مسجون حارس يتبعه كقرين. ولأن هذه النسبة غير مقبولة عالميا، قررت الحكومة الهولندية إغلاق المزيد من السجون وتسريح المزيد من الحراس إن لم تتداركها اتفاقيات مشابهة من دول الجوار.   
وتعكف الحكومة الهولندية حاليا على دراسة أسباب ضعف الإقبال غير المسبوق من قبل المواطنين على زنازينها الشاغرة كما صرح بذلك المتحدث باسم وزارة العدل جوشيم فان أوبستال. وتتهم المعارضة الهولندية الحكومة ورجال القضاء بالمساهمة في تفاقم أزمة الإشغال، وذلك بإخلاء سبيل السجناء بعد قضاء ثلثي المدة وراء القضبان، ويطالبون رجال القضاء بإصدار أحكام أشد قسوة حيال المواطنين المتورطين بارتكاب جرائم عنف ضد الأفراد أو المجتمع.
تسعة عشر سجنا هولنديا معروضون اليوم للإيجار بنسب تخفيض هائلة، وعلى الراغبين في الحجز الاتصال بأقرب سفارة هولندية. وسوف تقوم هولندا بتحمل تكاليف الشحن البري أو الجوي مع تغطية نفقات سفر أهالي الأشقياء ذهابا وإيابا. "السجناء منكم، والحراس منا،" يقول وزير العدل، "ويمكننا التفاوض بخصوص رؤساء السجون وإدارييها." 
ولولا ضيق اليد ونقص الموارد لطالبت الحكومة المصرية التي تعاني زنازينها حاليا من كثرة الرواد وصعوبة التنفس أن تهتبل الفرصة وتبادر بالتواصل مع الحكومة الهولندية للاستفادة من العرض قبل أن تسبقنا إليه دول الجوار الهولندي. ولولا خشيتي من تزايد نسبة العنف في المجتمع المصري من أجل الحصول على تأشيرة سجن غربي مقابل ممارسة العنف لطالبت بتحويل الملف إلى النقابات وجمعيات حقوق المساجين في بلاد ضاقت بأشقيائها. 
في الواحد من سبتمبر عام 2001، قرر بشار الأسد أن يحول سجن المزة العسكري سيء السمعة فجأة إلى معهد للعلوم التاريخية، ويومها انتشيت فرحا واعتبرت ما يحدث بداية رائعة لمسار عربي ديمقراطي مشرف، لكنني عدت وانتكست حين علمت أن جميع معتقلي المزة لم يسافروا إلى هولندا، وأنه تم نقلهم قسريا إلى سجني تدمر وصيدنايا لقضاء ما تبقى لهم من مهانة في سجون وطنية، وانتكست أكثر حين علمت أن سجن المزة لم يتحول إلى معهد للعلوم التاريخية وإنما إلى استراحة للسيد ماهر الأسد وأنه لا يزال محاطا بالأسلاك العربية الشائكة. 
عبد الرازق أحمد الشاعر

0 تعليقات:

إرسال تعليق