Ads

الأطلال


أخيرا خلا الوادي وأصبح خاويا علي عروشه ..
تم نقل كل شيء .. حُمل الأثاث الخشبي البسيط علي العربات التي تجرها البغال والخيول المريضة المتعبة .. الأمتعة الأكثر ثمنا تم تحميلها علي ظهور الأحصنة والجياد القوية الشابة برفقة فرسانها المغاوير .. النساء والأطفال شُحنوا في عربات الخضر المتهالكة كيفما أتفق .. أما المرضي والعجائز فقد خصصت لهم زحافات وعربات يجرها العبيد البائسون الذين تولوا كبر العمل الشاق حتى تم إخلاء الوادي الذي ضربه الجفاف .. 
وبتلك البساطة التي تسيل لها الدموع تم كتابة كلمة النهاية لحضارة وادي دامت أكثر من ألف عام .. إنه موعد الرحيل يا أبناء !
في خضم تلك الحركة الدائبة كلها كان هناك رجل عجوز يقف بملامحه المغضنة الهادئة متأملا هذا كله .. بعد قليل أقترب منه شاب مفتول العضلات وقال له بهدوء وإجلال :
" موعد الرحيل قد حان يا أبي .. هيا بنا ! "
تاهت أعين العجوز في أجواز الفضاء وأجاب علي ابنه بهدوء كوني متسامح مع مصائب الزمان :
" أبوك لن يرحل يا بني ! "
كان الابن قد سمع هذا الكلام من قبل عدة مرات ولكنه لم يصدقه .. الآن فقط بدا أن الأمر جدي !
هتف الابن متوسلا لأبيه :
" أرجوك يا أبي .. أرجوك تعالي معنا ! "
للمرة الثانية وبهدوء أشد رد العجوز مكررا عبارته الأولي .. فعصر الابن عينيه يأسا وحزنا ثم غادر بهدوء .. هناك نساء وأطفال يحتاجون إليه وليس من حقه أن يتركهم لمصيرهم ليبقي مع أبيه العجوز العنيد .. لا فائدة من محاولة إثناء العجوز عن رأيه .. لا فائدة !
وهكذا رحل الابن الأوحد مع البقية الباقية من سكان الوادي .. وبقي العجوز بمفرده فوق التل مالكا للوادي القابع تحته متلظيا في نار الشمس وحرارة الجفاف والظمأ !
حين جاء إلي هذا الوادي كان الخصب والنماء يجللانه .. وفيه قضي أخصب ستون عاما من عمره .. وفيه عاش وتزوج وأنجب الولد الأوحد ، الذي أنجب له بدوره عشرة من الصبية والبنات كلهم ، كلهم قد نما لحمهم من خيرات هذا الوادي وسال دمهم من مائه .. أفليس من الخسة وقلة الأصل أن يتركوه بعد أن جف مائه وتغضن جلده كما تركه ولده الآن ؟!
فوق الوادي الجاف حام نسر كندور ضخم متفقدا الأحوال بأسفل .. ولما لم يجد النسر شيئا يغريه بأسفل الوادي طار صاعدا إلي أعلي .. وبعد لحظة كان يحلق فوق رأس العجوز الواقف بأعلى التل .. حلق النسر لحظات طويلة ثم بدأ يطير في حلقات حول موضع العجوز الذي رفع بصره إليه .. نظر العجوز للوادي الخالي علي عروشه للحظة .. ثم عاد ينظر للنسر وقد ارتسمت ابتسامة متسامحة علي ملامحه المجعدة .. همس الرجل وكأنه يصلي :
" لا تقلق يا صديقي .. ابق في الجوار .. فلن يطول إنتظارك ! "

منال عبد الحميد

0 تعليقات:

إرسال تعليق