بقلم : د. عبد الحليم منصور .
لا خلاف بين الفقهاء فيما أعلم في ثبوت الشفعة للمسلم على المسلم وللمسلم على الذمي وللذمي على الذمي ولكن هل تثبت للذمي على المسلم ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين :
الرأي الأول : ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية ، والمالكية والشافعية ، والظاهرية ، إلى ثبوت الشفعة لشريك مطلقا مسلما كان أو غير مسلم ( يهوديا أو نصرانيا ) وهذا القول روي عن شريح ، وعمر بن عبد العزيز أن له الشفعة ، وبه قال النخعي ، وإياس بن معاوية ، وحماد بن أبي سليمان ، والثوري ، ومالك ، والشافعي والعنبري ، وأصحاب الرأي .
قال الكاساني :" وأما إسلام الشفيع فليس بشرط لوجوب الشفعة ، فتجب لأهل الذمة فما بينهم وللذمي على المسلم "
الرأي الثاني : ذهب الحنابلة إلى أن الشفعة لا تثبت لغير المسلم على المسلم.
قال ابن قدامة :" ولا شفعة لكافر على مسلم ، وجملة ذلك أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم ، فلا شفعة له عليه ، روي ذلك عن الحسن والشعبي"
[ الأدلة والمناقشة ]
(أ) أدلة الرأي الأول : استدل جمهور الفقهاء القائلون بثبوت الشفعة لغير المسلم على المسلم بما يلي :
أولا ـ من السنة : بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي :" قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة ، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " فقد أفاد هذا الحديث بعمومه ثبوت الشفعة للشريك مطلقا سواء كان مسلما ، أو ذميا ، والقاعدة أن العام يبقى على عمومه حتى يقوم دليل على التخصيص .
ثانيا ـ من الأثر : بما روي عن شريح أنه قضى بالشفعة لذمي على مسلم ، فكتب إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فأجازه ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ، فيكون ذلك إجماعا.
ثالثا ـ القياس على الرد بالعيب بجامع أن كلا منهما حق ثبت لدفع الضرر ، فاستوى فيه المسلم والكافر .
جاء في المغني :" .. ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر ، كالرد بالعيب "
رابعا ـ المعقول من وجهين :
الوجه الأول : إن الأخذ بالشفعة بمنزلة البيع والشراء وهذا يستوي فيه المسلم والذمي .
قال الكاساني :" .. لأن هذا حق التملك على المشتري بمنزلة الشراء منه ، والكافر والمسلم في ذلك سواء ، لأنه من الأمور الدنيوية "
الوجه الثاني : إن الأخذ بالشفعة من المعاملات وهو مشروع لدفع الضرر ، والضرر مدفوع عنهم كما هو مدفوع عن المسلمين .
(ب) أدلة الرأي الثاني : استدل الحنابلة القائلون بعدم ثبوت الشفعة لغير المسلم على المسلم بما يلي :
أولا ـ من السنة : بما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا شفعة لنصراني " فقد دل هذا الحديث دلالة واضحة على عدم ثبوت الشفعة للنصراني على المسلم ، وهذا نص في محل النزاع فيجب المصير إليه .
مناقشة هذا الاستدلال :
لا نسلم لكم الاستدلال بهذا الحديث ، لأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة ، ومن ثم فهو لا ينهض في الدلالة على المطلوب
ثانيا ـ المعقول من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : إن الشفعة إنما ثبتت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه ، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري ، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم ، تقديم دفع ضرر الذمي .
الوجه الثاني : إن حق الشفعة معنى يختص العقار ، فلم يثبت للكافر على المسلم ، كالاستعلاء .
الوجه الثالث : إن الأخذ بالشفعة رفق شرعي ، فلا يثبت لمن هو منكر لهذه الشريعة .
مناقشة هذا الاستدلال :
لا نسلم لكم عدم ثبوت الشفعة لغير المسلم لأن ضرر الذي شرعت الشفعة لدفعه ثابت في حق كل منهما كما أن عموم النصوص الواردة عن النبي لم تفرق بين المسلم وغيره ، فتحمل على عمومها حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك ، كما أن القول بتخصيص المسلم بهذا الحق دون غيره قول تعوزه الدقة ، فيكون غير مقبول .
الرأي الراجح :
يبدو لي بعد العرض السابق لآراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة رجحان ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلون بثبوت حق الشفعة لغير المسلم على المسلم ، وذلك لقوة أدلته ، وسلامتها وخلوها عن المعارض القوي ، كما أن ما استند إليه المخالف من أدلة لم تسلم من الطعن والمناقشة ، الأمر الذي يجعل النفس تميل إلى ترجيح هذا الرأي ، والعمل بموجبه . والله أعلم .
المصدر : كتابي ( التملك الجبري بطريق الشفعة في الفقه الاسلامي والقانون المدني دراسة مقارنة )

0 تعليقات:
إرسال تعليق