Ads

التحكيم و النظام العام

وليد دياب 
مستشار بالتحكيم الدولى 
 التحكيم كوسيلة للفصل في المنازعات بين الأفراد يعود في ظهوره إلى قرون بعيدة، ربما يكون حتى قد سبق ظهور المؤسسة القضائية كما هي منظمة بالشكل الحالي أو على الأقل كان معاصرا في ظهوره لهذه المؤسسة التي لم تظهر إلا بعد أن انتظم الأفراد في مجتمعات منظمة بطريقة فسرتها العديد من النظريات لعل أهمها نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو، لكن قبل هذا الانتظام كان هناك لا ريب نوع من الحياة وإن كانت أقرب إلى المشاع إلا أنها عرفت شكلا من أشكال التنظيم البدائي الذي وفر طرقا لفظ المنازعات التي كانت تحدث بين أفراده، لعل أقربها إلى التطور هو التحكيم الذي عرفته المجتمعات القبلية بشكل واسع. هذا التضارب والحيرة حول الأسبقية التاريخية للتحكيم على القضاء أو العكس، فرضه نقاش بدأ مع عودة ظهور مؤسسة التحكيم في بداية القرن الماضي بشكل قوي، دفع إلى أن توضع له تشريعات وطنية تنظمه وتبرم من أجله اتفاقيات دولية انضمت إليها كل دول العالم تقريبا. وكان هذا النقاش يتمحور حول إمكانية أن يشكل هذا القضاء الموازي بديلا حقيقيا لقضاء الدولة الرسمي قد يؤدي إلى الاستغناء عنه وفي يوم من الأيام قفل أبواب المحاكم وتسريح القضاة أم أن التحكيم كوسيلة لفظ المنازعات ومهما تطور ونما وتعاطى له الأفراد والشركات ومهما كثرت مزاياه والتي يستمد أغلبها من الانتقادات الموجهة للمؤسسة القضائية حيث يتمحور أغلبها حول سرعة البت وانخفاض التكلفة وسرية الجلسات واختصاص المحكم، لن يعدوا أن يكون وسيلة موازية أو إن شئنا الدقة وسيلة اختيارية مساعدة لمؤسسة القضاء التي تستمد أصالتها وقيمتها من اتفاق أفراد المجتمع على جعله سلطة ثالثة مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، أنيط بها تحقيق العدل وضمان الاستقرار لن يستطيع التحكيم إلغاءها أو جعل المجتمع يستغني عنها. 
ولأن هذه العودة القوية للتحكيم كانت نتيجة لما أسماه البعض "العودة إلى العقد" باعتباره المحور الرئيسي للنظام القانوني للانفتاح الاقتصادي في سعيه لاجتذاب رأس المال الأجنبي، فإن نظام التحكيم الجديد ليس سوى امتداد لمفاهيم سلطان الإرادة والحرية العقدية وسيادة العقد في مجال تسوية المنازعات كما دفعت بها ودعمتها آليات التجارة الدولية الحديثة. وهو الأمر الذي يعني أن التحكيم المقصود بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر غالبا في كل مرة يدور هذا النقاش هو التحكيم الدولي أو بدقة أكثر التحكيم التجاري الدولي. وهو ما يفسر ضعف اللجوء إلى التحكيم لتسوية المنازعات الداخلية أو الوطنية وتركها للقضاء كمؤسسة رسمية يفصل فيها كنوع من تحديد الاختصاص غير معلن لكن متوافق عليه بين الجميع. على أساس أن هذا القضاء الوطني غير مؤهل نهائيا للنظر في النزاعات من الطبيعة التي تتجاوز حدود الوطن الواحد. وبالتالي وجب تركها لقضاء التحكيم ليفصل فيها. 
كل هذا يدفع إلى الاعتقاد بأن الهدف الأساسي من تشجيع التحكيم من قبل الأطراف المهيمنة على التجارة الدولية وبالتبعية الاقتصاد الدولي هو استبعاد قضاء الدولة من هذا المجال. إلا أنه وإن كان هذا الهدف موجود وحاضر في أذهان هؤلاء، يبقى الهدف الحقيقي وغير المعلن لنظام التحكيم هو استبعاد قانون الدولة. أما استبعاد قضاء الدولة- وأيا كانت الحجج الظاهرية التي تساق لتبرير ذلك- فليس هدفا في حد ذاته وإنما هو ضرورة يقتضيها الوصول إلى الهدف الحقيقي الذي هو كما قلنا استبعاد قانون الدولة لتطبيق أي قانون آخر يلائم مصالح الأطراف القوية في التجارة الدولية التي عرفت تطورا كبيرا أصبحت فيه عملية الإنتاج الرأسمالي تتم لا على المستوى الوطني كما كان يحدث في الماضي وإنما على المستوى العالمي مستخدما في ذلك الشركات المتعددة الجنسيات الأمر الذي انعكس على المستوى القانوني في ازدياد وتنوع عقود التجارة الدولية التي تبرمها هذه الشركات مع وليداتها المتناثرة على المستوى العالمي أو حتى مع المشروعات المستقلة العاملة في مختلف دول العالم ( عقود إنشاء المجمعات الصناعية، عقود نقل التكنولوجيا، العقود الهندسية، عقود المقاولات الإنتاجية، عقود التوريد وغيرها .....). ولقد كان من الطبيعي في هذا الإطار أن تسعى هذه الشركات إلى توحيد النظام القانوني الذي يحكم نشاطها على المستوى العالمي. إلا أن العقبة الأساسية التي كان من اللازم تخطيها لتحقيق هذا التوحيد كانت هي قانون الدولة  والمتمثل عملا في تلك التشريعات الوطنية المتنوعة والتي صدرت في معظم الدول النامية تحمل معها مفاهيم جديدة عن الملكية والعقد والحرية التعاقدية والنظام العام، مفاهيم تختلف بشكل جذري عن تلك التي سادت ومازالت سائدة في الأنظمة القانونية الغربية. 
ولقد كان نظام التحكيم التجاري الدولي هو الأداة الرئيسية التي استخدمت لتخطي هذه العقبة على طريق توحيد النظام القانوني لرأس المال على المستوى العالمي. 
 وبعد شيوع مفهوم العولمة وكل المفاهيم المرتبطة به سياسيا واقتصاديا وثقافيا وقانونيا. فإن أي محاولة لوضع تشريع ينظم التحكيم كوسيلة لفظ المنازعات .
 وقد نصت أغلب التشريعات الوطنية التي نظمت التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات على أنه لا يمكن الاتفاق على التحكيم في المسائل التي تمس النظام العام . بمعنى أنه لا يكفي وجود نزاع في علاقة قانونية محددة للقول بتوافر ركن المحل في اتفاق التحكيم، بل لا بد أن يكون النزاع قابلا للتسوية عن طريق التحكيم , أي أن يكون متعلقا بالحقوق التي يملك الأشخاص التصرف فيها والتي لا ترتبط بأي صلة بالنظام العام. وهو نفس الأمر الذي اهتمت به الاتفاقيات الدولية ونصت على ضرورة التأكد من توافره. 
ولكن إذا كان حظر التحكيم في بعض الأمور، لا يثير مشاكل كبيرة لصلتها بالمصلحة العامة، وارتباطها المتين بالحالة الاجتماعية للفرد والأسرة ولتعلقها بحق الله تعالى، كما تلك التي يلتقي حولها الدين بالقانون، كصحة الزواج أو بطلانه، البنوة، حضانة الأطفال إلى غير ذلك. فإن الأمر يختلف تماما بالنسبة لمنع التحكيم في كل ما يمس بالنظام العام. وأمام صعوبة وضع تصور محدد لتعريف هذا الآخير، يثور التساؤل عن الحدود التي يكون فيها التحكيم ماسا بالنظام العام. خصوصا وأن مفهوم هذا الأخير يظل حاضرا باستمرار في مختلف العلاقات القانونية عن طريق القواعد الآمرة المنظمة لهذه العلاقات، لتكون النتيجة المنطقية لهذا المعطى هي إيجاد صلة بين القدرة على اللجوء للتحكيم وبين عدم وجود الصفة الآمرة في القواعد التي تنظم العلاقة القانونية موضوع النزاع محل التحكيم. على أن كل تفسير من هذا النوع قد يؤدي لا محالة إلى تضييق مجال التحكيم إلى أبعد الحدود، باعتبار أن كل العلاقات التي ينظمها القانون لا محالة تتضمن مقتضيات تتعلق بالنظام العام. 
وأمام هذه الصعوبة، أعمل الفقه والقضاء اجتهاده ليصل إلى ضرورة التعامل بمرونة مع النصوص وتفسيرها بشكل يتجاوز ظاهرها ليخلص إلى وجوب الامتناع عن أعمال فكرة النظام العام إلا في حدودها الضيقة أي فقط في المسائل التي تتعلق بكيان الدولة ذاتها ووظائفها السياسية كالمسائل المتعلقة بالتجريم والعقاب وأهلية الأشخاص وحالتهم وأعمال الدولة الخارجة عن إطار المعاملات الاقتصادية. 
إذا كان هذا هو ما عليه الحال على المستوى الوطني أو الداخلي من علاقة التحكيم بمفهوم النظام العام. فإنه على المستوى الدولي أي التحكيم الدولي تلعب فكرة النظام العام نفس الدور الذي يلعبه ضرورة ضمان حقوق الدفاع والمساواة بين الخصوم وما يترتب على إهدارها من بطلان قرار التحكيم. ذلك ان هذا القرار قد يواجه نفس المصير إذا لم يحترم المحكمون أثناء سير المنازعة تلك القواعد التي تتعلق بالنظام العام، سواء في الدولة التي يجري على إقليمها التحكيم أو تلك التي تتعلق بالنظام العام في الدولة التي يجري تنفيذ القرار على إقليمها. ومرد ذلك إلى أن الأنظمة القانونية للدول، على اختلاف نظمها الاجتماعية والسياسية تحتوي كما رأينا على قواعد أو ما يمكن أن يسمى بشروط المحافظة على نظامها الاجتماعي يستبعد بمقتضاها أي قانون أجنبي أو أي أثر لقرار قضائي أجنبي يتمثل فيه تجاوز لهذه القواعد أو الشروط أو يتعارض مع مصالح تلك الدولة أو أساسها الاجتماعي. 
وإذا كانت مشكلة احترام النظام العام في المعاملات الداخلية تثير بعض المشاكل كما رأينا، فإنه رغم صعوبتها ودقتها إلا انه يبدو من الممكن التعامل معها وتجاوزها. والأمر ليس كذلك بالنسبة لاستخدام هذه الفكرة على الصعيد الدولي، لا سيما في معاملات التجارة الدولية . ذلك لأنه من ناحية ليس كل حكم يتعلق بالنظام العام في التطبيق الداخلي للنصوص هو بالضرورة كذلك على الصعيد أو التطبيق الدولي. وذلك بالنظر إلى طبيعة الاختلافات بين النظم القانونية والاجتماعية بين الدول . وهو ما يؤدي حسب هذا التحليل إلى القول بعدم تطابق فكرة النظام العام الداخلي مع فكرة النظام العام على المستوى الدولي ولا سيما في مجال التحكيم التجاري باعتباره قضاء للتجارة الدولية، ومن الخضوع للقواعد الصماء في القوانين الداخلية. كذلك فإنه من ناحية أخرى يبدو من الصعب القول بتحديد جوهر ملموس لفكرة النظام العام "الدولي" أو بمفهومه الدولي رغم أن هذه الفكرة بدأت تأخذ معنى ما على الصعيد الدولي، بعيدا إلى حد ما عن المعنى الحرفي لفكرة النظام العام في القوانين الداخلية إذ يمكن التساؤل مع البعض ، هل تعني فكرة النظام العام بمفهومه الدولي، القانون الطبيعي على المستوى العالمي، أم مبادئ العدالة العالمية أو الأخلاق أم مبادئ ما يسمى بالدول المتحضرة كما يزعم البعض أم مبادئ العدالة المطلقة. ومع ذلك يذهب أغلب الفقه إلى أن فكرة النظام العام الدولي، تعني القواعد المعيارية والتي تعتبر بمثابة الحد الأدنى أو القياسي التي يفرضها واقع المجتمع الدولي لحماية حقوق الإنسان. مع ضرورة التفرقة بين مبادئ النظام العام  وبين قواعد النظام العام.  
الأولى كما هو الحال بالنسبة لمبدأ حسن النية تنتمي إلى نظام عام دولي حقيقي أو عبر دولي. وللمحكم سلطة إهدار السلوك المخالف لحسن النية الذي يجب ان يتبوأ الصدارة في علاقات التجارة الدولية. أما قواعد النظام العام، مثل قواعد قانون المنافسة، فهي لا تعبر في الغالب إلا عن نظام عام خاص بدولة معينة، وكذلك مجموعة الدول بالنسبة لقانونها المشترك. وبالتالي لم تعد تثير مشكلة بالنسبة لقابليتها للتحكيم. 
وعلى أي حال فإنه إذا ما تعلق الأمر بالتحكيم التجاري الدولي، فإن تطبيق فكرة النظام العام بمعناها الدولي تصبح مرتعا هاما للتطبيق والخلاف. وتصبح هذه الفكرة بمثابة سلاح ذو حدين الذي يمكن إشهاره دائما في وجه تنفيذ القرار الصادر في المنازعة ، ولا سيما فيما يتعلق بسلامة إجراءات سير المنازعة أو احترام حقوق وضمانات الدفاع. وبهذا الصدد يقع على كاهل المحكم، في واقع الأمر مراعاة احترام القواعد المتعلقة بالنظام العام للدولة التي ينفذ قرار التحكيم على إقليمها. ويلاحظ أنه حتى في الحالات التي ينعقد فيها الاختصاص التشريعي لقانون الدولة، أما بناء على نص في العقد الدولي، أو تطبيقا لقواعد تنازع القوانين التي لجأ إليها المحكمون، فإن قضاء التحكيم يصل في الكثير من الأحيان إلى استبعاد هذا القانون وتطبيق "قانون التجارة الدولية" وذلك باستخدام أدوات وأساليب قانونية عديدة ومتنوعة، لعل أهمها ذلك المفهوم البالغ الغرابة الذي ابتدعه فقه القانون التجاري الدولي والذي تحدثنا عنه تحت مسمى النظام العام الدولي. ووفقا لهذا المفهوم، فإن قانون التجارة الدولية باعتباره نسقا قانونيا مستقلا ومتكاملا لا يملك فقط قواعده الموضوعية التي تحكم علاقات التجارة الدولية، وقضاءه المستقل المتمثل في نظام التحكيم الدولي، وجزاءاته المتميزة، ولكنه يملك أيضا نظامه العام الخاص به: النظام العام الدولي، والذي يؤدي نفس الوظيفة القانونية التي يؤديها النظام العام الداخلي في ميدان تنازع القوانين، وهي استبعاد قانون العقد في كل مرة تتعارض فيها أحكام هذا القانون مع مبادئ النظام العام الدولي. 
وهنا يثور السؤال : من الذي يحدد لنا تلك المبادئ العامة التي تشكل في مجموعها النظام العام الدولي؟ وعلى هذا يجيب فقه قانون التجارة الدولية بأن "قضاء التحكيم" هو الذي يتولى في نهاية الأمر و ضع معالم وحدود النظام العام الدولي. 
"ولقضاء التحكيم" تطبيقات متعددة لمفهوم النظام العام الدولي كأداة لاستبعاد قانون الدولة. ولعل أهم هذه التطبيقات وأشهرها هو ذلك المتعلق بصحة شرط التحكيم في عقود الدولة على الرغم من وجود نص آمر في قانون الدولة يحرم لجوء الدولة إلى التحكيم. 
من ذلك الحكم الصادر من إحدى هيئات التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في القضية رقم 1939 لسنة 1971 والمتعلق بنزاع بين شركة إيطالية وإحدى الهيئات العامة الأثيوبية حول مدى صحة شرط التحكيم الوارد في العقود المبرمة بينهما، حيث استبعد المحكم السويسري أحكام القانون المدنى الأثيوبي التي تحرم إدراج شرط التحكيم في العقود الإدارية مستندا في ذلك إلى " مبادئ النظام العام الدولي وفي هذا يقول المحكم في قراره" إن النظام العام الدولي يتعارض بشدة مع قيام إحدى هيئات الدولة في تعاملها مع أشخاص أجانب عن هذه الدولة بإبرام اتفاق تحكيم صريح بفرض اكتساب ثقة الطرف المتعاقد معه، ثم محاولتها فيما بعد أثناء إجراءات التحكيم أو أثناء إجراءات التنفيذ التحلل من اتفاقها بإدعاء بطلانه. 
لذلك فإن عددا من أحكام التحكيم التي صدرت في إطار نظام التحكيم التابع لغرفة التجارة الدولية قد قضى بصحة شروط الضمان ضد تقلبات سعر الصرف، وإن كان ذلك قد جاء بطريقة ضمنية، الأمر الذي يكشف كما يقول الأستاذ جولدمان عن اتجاه قضاء التحكيم إلى اعتبار قاعدة " العقد شريعة المتعاقدين" من النظام العام الدولي، بما يعنيه ذلك من ضرورة إعمال الشروط العقدية وتغليبها على الأحكام الآمرة المخالفة في قانون الدولة الواجب التطبيق على العقد. 
وأيا كانت تطبيقات قضاء التحكيم" لمفهوم النظام العام الدولي، فإن الذي يعنينا هنا التأكيد عليه هو أولا أن مفهوم النظام العام الدولي لا يستقيم إلا إذا اعترفنا مقدما بوجود قانون التجارة الدولية كنسق قانوني مستقل وبوجود قضاء التحكيم بالمعنى الفني الدقيق لمفهوم القضاء، وهما الأمران اللذان يمكن أن يوفرهما مجرد وجود تشريع وطني خاص بالتحكيم يعترف بشرعيته ويكرسه أكثر منه منظما لهذه الآلية كوسيلة لفظ المنازعات، لأن هذه المسألة تتجاوز بكثير قدرات المشرع الوطني أمام سطوة الأطراف القوية في التجارة الدولية. ومع ذلك فحتى لو قبلنا كل مسلمات نظرية قانون التجارة الدولية فمن الصعب القبول بمفهوم النظام العام الدولي، إذ أن هذا المفهوم على حد تعبير الأستاذ أنطوان كاسيس هو مفهوم مستحيل، إذ أنه يقوم ابتداء وانتهاء على تناقض منطقي يستحيل تجاوزه. ويقول إن أي قراءة متأنية لكتابات فقهاء القانون التجاري الدولي من أنصار هذه النظرية  تبين لنا أن هؤلاء الفقهاء يعترفون بأنه أيا كانت درجة اكتمال هذا التنسيق القانوني الدولي فإن هناك من القضايا المرتبطة بعقود التجارة الدولية التي مازال تنظيمها يخضع لقانون الدولة، مثل مسائل الأهلية وعيوب الرضا. وبعبارة أخرى فإن تدويل النظام القانوني لعقود التجارة الدولية ليس كاملا، إذ أن قانون التجارة الدولية لا يحكم في نهاية الأمر إلا المسائل المتعلقة بتفسير وتنفيذ عقود التجارة الدولية , ونحن نعرف جيدا أن أحكام قانون التجارة الدولية كلها ذات أصل تعاقدي، فهي نتاج ممارسات أطراف عقود التجارة الدولية كما تجسدت في العقود النموذجية، والشروط العقدية الدارجة، والأشكال العقدية الجديدة، خاصة منها تلك المركبة أو التوليفات العقدية.
وبناء عليه لم يكن غريبا أن يكون المبدأ الأساسي الذي يشكل المحور الذي ترتكز عليه كل أحكام هذا النسق القانوني هو مبدأ العقد شريعة المتعاقدين. ولذلك لم يكن غريبا أيضا أن تكون كل قواعد هذا القانون من قبيل القواعد المكملة لإرادة أطراف العقد، فلا يمكن لهذه القواعد أن تستبعد نصا في العقد الدولي، فالعبرة أولا بأحكام العقد ولو خالفت قواعد قانون التجارة الدولية. 
وهنا يثور السؤال : كيف يمكن لمجموعة من القواعد غير الآمرة أي المكلمة لإرادة الأفراد أن تشكل نظاما عاما بأي معنى من المعاني؟ خصوصا وأننا كنا قد انتهينا إلى أن أهم مظاهر النظام العام ومصادره هي مجموعة القواعد الآمرة التي لا يصح الاتفاق على ما يخالفها، أي لا يجوز للأشخاص القانونية الخروج عليها باتفاق خاص. فالنظام العام يستبعد بالضرورة أي إرادة فردية مخالفة لأحكامه. 
إذا كان هذا هو مفهوم النظام العام فكيف يمكن لقانون التجارة الدولية الذي يتكون من مجموعة من القواعد المفسرة لإرادة الأفراد أن يكون له نظامه العام الذي يستبعد قانون الدولة، وأي نظام عام هذا الذي لا يقوى على استبعاد إرادة الأفراد ولكنه يستطيع أن يستبعد القواعد الآمرة في قانون الدولة؟. 
واضح إذن أن الأمر يتعلق بمبرر إيديولوجي مباشر لممارسات التحكيم الدولي التي تهدف أولا وأخيرا إلى استبعاد قانون الدولة كخطوة ضرورية على طريق تدويل النظام القانوني للعقد الدولي، وهو التدويل الذي يكفل فعالية شروط هذا العقد كما تحددها وتفرضها الأطراف المهيمنة على التجارة الدولية، أكثر من ما يتعلق بنظرية حقيقية للنظام العام الدولي. 
ويكفي هنا أن نلقي نظرة سريعة على تلك المبادئ العامة التي يدخلها فقهاء قانون التجارة الدولي في عداد النظام العام الدولي لكي نتأكد من صحة هذا الاستنتاج. 
فأول هذه المبادئ هو مبدأ العقد شريعة المتعاقدين وهو المبدأ الذي يقر القوة الإلزامية للعقد ليجسد في النهاية مبدأ الحرية التعاقدية. وإذا كان أصلا النظام العام هو بطبيعته قيد على مبدأ الحرية التعاقدية، فإن النظام العام بهذا المعنى هو نقيض مبدأ الحرية التعاقدية. إذ أن وظيفته الأساسية هي استبعاد أحكام العقد المخالفة لمبادئه. فكيف يمكن والحال كذلك اعتبار مبدأ الحرية التعاقدية من النظام العام . 
وتتأكد صحة هذا الاستنتاج أكثر عندما نجد فقهاء قانون التجارة الدولية يقررون بأن نظرية الظروف الطارئة كما يطبقها المحكمون الدوليون تعتبر من النظام العام. ذلك أن نظرية الظروف الطارئة بما تخوله للمحكم من سلطة تعديل العقد في كل مرة يؤدي فيها تغير الظروف الاقتصادية إلى الإخلال بالتوازن بين الاداءات المختلفة التي يرتبها العقد الدولي، بالشكل الذي يكفل إعادة هذا التوازن، تنفي تماما مبدأ العقد شريعة المتعاقدين الذي يعتبر كما رأينا من النظام العام الدولي، بحيث يستحيل تماما اعتبار هاتين القاعدتين معا من النظام العام. 
وبعد، يبدوا أن الأمر لا يعدوا ان يكون محاولات متتالية لإضفاء الشرعية على مفهوم يصعب الاعتراف حتى بوجوده بالنظر للكم الهائل من التناقضات التي يحملها بداخله، مهمى تعددت تطبيقاته. لنفهم في الأخير أن الهدف الأساسي والنهائي هو تأكيد وجود قانون التجارة الدولية مستقلا بذاته يحمل في حد ذاته أدوات كفايته واستغناءه عن قواعد القوانين الداخلية للدول لضمان تلافي أي رقابة من أي نوع وفي أي مرحلة للقضاء الوطني على الأحكام التي تصدرها هيئات التحكيم الدولية مطبقة أحكام " قانون التجارة الدولية" التي تعوض في هذه الحالة القوانين الداخلية الوطنية التي يسهر القضاء الوطني على تطبيقها. لتبقى مهمة هذا الأخير حيال أحكام التحكيم هي وضع التأشيرة التنفيذية عليها وبالتالي تيسير هذا التنفيذ ورفع كل العراقيل التي قد تعترضه دون الخوض في أي محاولة للرقابة على هذه الأحكام من الناحية الموضوعية. 
كل الملاحظات التي وردت في النقطة السابقة والمتعلقة بمدى سلطة المحكم في اختيار القانون المسطري أو الموضوعي الذي سوف يخضع له النزاع موضوع التحكيم وحتى في ابتداع قواعد قانونية جديدة، وإن كانت في نهاية المطاف ليست سوى تطويع لقواعد قانونية موجودة أصلا، لتخدم الطبيعة الخاصة والمختلفة لمواضيع علاقات التجارة الدولية، محاولا بذلك خلق قانون خاص بهذه العلاقات ينفرد بمبادئه وبقواعده سمي قانون التجارة الدولية. كل هذه الملاحظات جاء بعض الفقهاء في محاولة منهم لتخفيف حدة الانتقادات الموجهة لمنطقيتها باعتراض يتمحور حول رقابة القضاء الوطني على قرارات التحكيم عند طلب وضع الصيغة التنفيذية عليها.متسائلين: ألا تشمل هذه الرقابة أول ما تشمل مدى مراعاة هذه القرارات للقوانين المتعلقة بالنظام العام في دولة القاضي؟. 
فإذا كانت خصوصية قضاء التحكيم تكمن في أصله الإتفاقي، فإن ذلك يستلزم مرونة كبيرة في التعامل مع الأحكام الصادرة عنه بسبب نطاق الحرية الواسع المتروك للمتعاقدين، ولما كانت فعالية هذا القضاء التحكيمي هي محدودة وناقصة بسبب افتقار المحكم لسلطة الأمر، فإن الأمر إستلزم تدخل قضاء الدولة لتكملة عمل المحكمين، حتى يمكن للحكم الصادر عنهم أن ينتج أثاره كما لو كان صادرا من قضاء الدولة، وهذا لا يتم إلا من خلال رقابته للتأكد من صحته ومشروعيته لإمكانية الأمر بتنفيذه. 
على أن التزام المحكوم عليه بتنفيذ الحكم الصادر في التحكيم يولد منذ اتفاق الأطراف على إبرام مشارطة التحكيم وأن الحكم الصادر بناء على هذا الاتفاق من قبل المحكمين ملزم لهم، ومن ثمة وجب تنفيذ حكم المحكمين حتى يحصل الطرف المحكوم له بطريقة ملموسة على ما كان يرمي إلى تحقيقه قانونا، وهذه المرحلة النهائية من الإجراءات تلقي الضوء مرة أخرى على الطابع التعاقدي لهذه العدالة الخاصة. فبمجرد صدور حكم المحكمين، يكمل المحكم مهمته التي سمي من أجلها، وما يعقب ذلك هو مهمة المتعاقدين الآخرين، وهذا ما تذكر به دائما وبصفة عامة لوائح هيئات التحكيم الدائمة، وإذا كان التحكيم هو عدالة اختيارية، فإن هذه الخصوصية يجب أن تظهر بوضوح في مرحلة تنفيذ الحكم. 
فالتنفيذ الاختياري لحكم المحكمين بواسطة الطرف المحكوم عليه يبدو أكثر انسجاما وهو ما يتفق مع طبيعة التحكيم، وهوما دفع بعض الفقه إلى حد القول بأنه إذا أعقبت إجراءات التحكيم إجراءات لاحقة أمام قضاء الدولة، فإن التحكيم يفقد سبب وجوده وقيمته، بل ويكون نظامه قد حرف. 
لكن بالمقابل تشكل رقابة القضاء الوطني لأحكام المحكمين حين يراد تنفيذها ضمانة هامة للتأكد من نظامية هذه الأحكام إن على المستوى الشكلي أو على المستوى الموضوعي تفاديا لأن تصبح أحكام المحكمين أحكاما تحكمية يفرض فيها القوى سلطته على الضعيف. 
فعلى هذا المستوى لا تتضمن أغلب القوانين المقارنة نصوص تحدد مدى وطبيعة الرقابة التي يجب أن يقوم بها القاضي قبل منح الأمر بالتنفيذ. لذلك احتدم الخلاف في الفقه والقضاء حول نطاق ومدى هذه الرقابة، فالبعض ذهب إلى أنها رقابة ذات طابع شكلي صرف من النمط الإداري، ويكون ذلك بالقدر وفي الحدود التي يتم فيها وضع حكم المحكمين تحت رقابة قاض من النظام القضائي الرسمي. وعلى العكس ذهب البعض الآخر إلى منح قاضي الأمر بالتنفيذ سلطة أوسع. وعليه يجب على القاضي أن يرفض منح الأمر بالتنفيذ إذا كان الحكم المطلوب تنفيذه لا يعد حكم محكمين كأن يكون مجرد تقرير الخبير أو مجرد إبداء رأي، فالعمل يجب أن يكون له مظهر حكم المحكمين. وللقاضي أن يفحص الشرعية الشكلية لحكم المحكمين من حيث العيوب التي قد تشوبه مثل تخلف توقيع المحكمين أو أسماءهم، وكذلك من حيث وجود أو غياب الأسباب وليس عدم كفاية الأسباب أو عدم صحتها أو تعلقها بالموضوع لأن تقدير ذلك لا يعود لقاضي التنفيذ لأن ذلك يقتضي منه فحص الموضوع ويفترض فحص القانون الواجب التطبيق. ففي كل الفروض السابقة، يمكن القول بان الطابع الولائي لعمل قاضي الأمر بالتنفيذ يقتضي قصر سلطة هذا الأخير على فحص الصحة أو المشروعية الظاهرة لحكم المحكمين المطلوب الأمر بتنفيذه وذلك من الناحية الشكلية. 
ومع ذلك هناك ضوابط وشروط يجب توفرها في حكم التحكيم للاعتراف به والأمر بتنفيذه. 
وعليه يستطيع القاضي رفض الاعتراف بحكم التحكيم ورفض وضع الأمر بتنفيذه، إذا قدم الخصم الذي يحتج عليه بالحكم، ما يثبت أن أطراف التحكيم كانوا طبقا للقانون الذي ينطبق عليهم عديمي الأهلية. ويرجع في شأن أهلية أطراف النزاع إلى قواعد تنازع القوانين التي تحدد القانون الذي يحكم الأهلية. 
كما يجب رفض الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه إذا قدم ما يثبت أن اتفاق التحكيم قد شابه عيب يمس صحته وفقا لقانون الإرادة أو قانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم عند تخلف قانون الإرادة. 
ونفس المصير يجب أن يلقاه حكم التحكيم الذي لم تحترم فيه حقوق الدفاع، كما إذا دلل الخصم المطلوب التمسك ضده بالحكم على أنه لم يعلن إعلانا صحيحا بالحضور وبالجلسة المحددة للتحكيم أو بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم أو استحال عليه لسبب أو لأخر أن يقدم دفاعه. 
ويطبق نفس الحكم إذا ثبت أن تشكيل هيئة التحكيم أو أن إجراءاته مخالفة لقانون الإرادة أو مقر التحكيم عند تخلف قانون الإرادة. 
كما نصت المادة 5 بند ج من اتفاقية نيويورك على أنه يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ حكم المحكم إذا أثبت المحكوم عليه أن قرار التحكيم قد عالج نزاعا غير وارد في مشارطة التحكيم أو اتفاق التحكيم أو تجاوز حدودها فيما تم القضاء فيه. 
ويجب رفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا كان قانون مكان التنفيذ لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم، بمعنى أن يكون الحكم قد صدر في مسألة مما لا يجوز التحكيم فيها موضوعيا طبقا لقانون الدولة التي يراد الاحتجاج بالحكم على إقليمها. 
وعموما لا يجوز الاعتراف أو تنفيذ حكم التحكيم إذا تعارض مع مقتضى من مقتضيات النظام العام في بلد التنفيذ بالمعنى الذي رأيناه سابقا. وهو ما أكده الحكم الصادر من محكمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية في باريس في الدعوى رقم 1397 لسنة 1969( ). مشيرا إلى أن النظام العام في الإطار الضيق بالنسبة للعقد المبرم من الدولة لا يعني إلا المسائل التي تخص السلطة العامة، أي عندما يمس حكم التحكيم المصلحة الوطنية العامة في الدولة التي يراد التنفيذ فيها بأضرار جسيمة. 
وتتطلب اتفاقيات التحكيم بوجه عام وجوب مراعاة هذا الشرط في بلد التنفيذ، ومنها، الأحكام التي تصدر عن المركز العربي للتحكيم الدولي في الرباط الذي تم إنشاءه بمقتضى اتفاقية عمان في 14 أبريل سنة 1987، حيث يكون تنفيذها في إحدى الدول الأعضاء بمعرفة المحكمة العليا لكل دولة متعاقدة وهي لا تستطيع أن ترفض التنفيذ إلا بسبب مخالفته للنظام العام. 
وإذا كان الأصل أن مسألة القوة التنفيذية لحكم التحكيم لا تخضع لاختصاص المحكم، وأنه لهذا السبب لا يمكن أن يفصل فيها. إلا أن هذا الموقف لا يمكن التسليم به على إطلاقه، مادام المحكم لا بد أن يكون لديه قدرا من العلم بمكان التنفيذ المحتمل وأن يأخذ هذا المكان بعين الاعتبار كما يأخذ بعين الاعتبار قانونه قبل تحرير حكمه. 
وهذا هو ما اعتدت به محكمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية التي أثارت في حكمها فكرة النظام العام لكل الدول التي يهمها النزاع أو يعنيها( ). ولهذا يرى بعض الفقه ضرورة أن تكون هيئة التحكيم قد راعت في حكمها القانون الواجب التطبيق بموجب قواعد تنازع القوانين في دولة التنفيذ، إذا كانت المنازعة مما يدخل في الاختصاص التشريعي لدولة التنفيذ طبقا لقواعد القانون الخاص فيها، أو تكون هيئة التحكيم قد توصلت إلى النتيجة ذاتها التي يؤدي إليها تطبيقها. 
وبالتالي يجب على سلطة التنفيذ أن تأمر من تلقاء نفسها برفض التنفيذ متى كان حكم التحكيم مخالفا للنظام العام بالمفهوم السابق. 
على أنه مهما يكون من أمر رقابة القضاء النظامي على أحكام التحكيم حين يراد وضع الصيغة التنفيذية عليها ومهما كانت سلطات هذا القضاء أو مداها في هذا المجال، فإنه من الصعب جدا من الناحية الواقعية الامتناع عن تنفيذ قرارات التحكم نظرا للضغوط الهائلة التي يمكن أن تمارسها الأطراف المهيمنة على التجارة الدولية  ، أي في نهاية الأمر الشركات المتعددة الجنسيات، ضد الطرف الذي رفض تنفيذ هذه القرارات، بل وللعقوبات التي يمكن أن توقعها عليه والتي قد تصل إلى حد المقاطعة الكاملة له، الأمر الذي حدا بأحد الفقهاء إلى أن يرى في هذا الوضع إيذانا بميلاد " قانون جديد غير مكتوب  وهو إن كان غير محدد المعالم بشكل واضح، إلا أنه فعال في حالة عدم احترام التعهدات الدولية. 
ولعل هذا هو الذي يفسر ما تكشف عنه الدراسات الإحصائية من أن معظم قرارات التحكيم تنفذ بشكل تلقائي ودون انتظار مرور الحكم على هيئة قضائية تمنحه الصيغة التنفيذية , وذلك تلافيا للعواقب الوخيمة التي قد تنجم عن الامتناع عن هذا التنفيذ والتي سرعان ما يتردد صداها داخل مجتمعات التجارة والاعمال لتصبح الخسارة مضاعفة و فاضحة , بحيث لا يمكن ان يحد من وطأتها اعمال فكرة النظام العام الوطني أو الدولي و لارقابة قضائية أريد لها ان تكون سطحية وهشة يتحول معها جهاز القضاء من أداة للحكم ولضمان المشروعية إلى مؤسسة إدارية تسهر على تنفيذ أحكام التحكيم التي يصدرها المحكمون . 
امام هذا الوضع , تصبح محاولة سن تشريع خاص بالتحكيم عملية جد شاقة ومسؤولية كبيرة لا يلطف من حدتها سوى توخي الحذر الشديد حين وضع النصوص وحين الاستعانة بالقانون المقارن ولكن بالخصوص ضرورة سد ما امكن من الثغرات التشريعية التي تعرفها مواضيع التجارة الدولية بشتى افرعها حتى لا تظل مرتعا لاجتهاد ليس أهل القانون المختصين وإنما اصحاب المصالح الكبرى فيها 

0 تعليقات:

إرسال تعليق