Ads

ما حكم تبرع المسلم لإقامة وترميم دور عبادة ليست إسلامية ؟ وهل يعتبر هذا دعما لإقامة عقيدة أو دين غير ما أمر الله به ؟


د.عبدالحليم منصور

الجواب : 
تناولت هذه المسألة في بحث لي منشور بمجلة كلية الحقوق جامعة طنطا بعنوان ( الدرر النفائس في حكم بناء الكنائس - دراسة فقهية مقارنة ) ويرجع سبب كتابة هذا البحث إلى الاعتداءت الواقعة بعد الثورة على كنائس الأقباط في مصر لذا شرعت في هذا البحث في 12 أكتوبر 2011 وانتهيت منه بعد وقت وجيز وكان المبحث التاسع منه بعنوان : 

المبحث التاسع
حكم الوصية ببناء الكنائس وعمارتها 
والوصية للكنائس قد تكون بالبناء ، وقد تكون بالعمارة ، ونحو ذلك وفيما يأتي أتناول حكم الوصية ببناء الكنائس ، وحكم الوصية بعمارتها في المطلبين الآتيين :

المطلب الأول 
حكم الوصية ببناء الكنائس
اختلف الفقهاء في حكم ما لو أوصى الرجل بأن تبنى داره أو بيته كنيسة ، أو بيعة على رأيين :
الرأي الأول : يرى الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه جواز وصية الرجل بأن تبنى داره ، أو بيته ، كنيسة إن كانت الوصية لمعينين ، وكانت الوصية بذلك في القرى ، دون الأمصار ( المدن ) فهي صحيحة وهي من الثلث ، وإلى هذا القول ذهب الإمام الشافعي فيما لو أوصى ببناء كنيسة ينزلها مارة الطريق.
قال الشافعي :" ولو أوصى أن تبني كنيسة ينزلها مار الطريق ، أو وقفها على قوم يسكنونها ، أو جعل كراءها للنصارى، أو للمساكين ، جازت الوصية ، وليس في بنيان الكنيسة معصية ، إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك " وهو قول للحنابلة نقله عبد الله وذهب إلى القول بالجواز أيضا بعض المعاصرين . 
وقال صاحب لسان الحكام : بصحة الوصية ببناء الكنيسة ، والبيعة لقوم معينين ، وادعى الإجماع على صحة هذه الصورة ، أما إن أوصى ببناء كنيسة لقوم لا يحصون، فنقل الصحة عن أبي حنيفة ، والبطلان عند محمد وأبي يوسف " جاء في لسان الحكام :" الرابع: إذا أوصى بما هو معصية عندنا ، طاعة عندهم ، كالوصية ببناء البيعة ، والكنيسة ، إن كانت لقوم بأعيانهم ، صحت بالاجماع، وإن كانت لقوم لا يحصون ، تصح عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعندهما ، لا تصح " 
وحجة هذا الرأي ما يأتي :
1 ـ إن الوصية فيها معنى الاستخلاف ، ومعنى التمليك فأمكن تصحيحها على اعتبار المعينين .
2 ـ إن بناء الكنيسة قربى في معتقد أهل الكتاب ، ونحن أمرنا أن نتركهم وما يدينون فيجوز بناء على معتقدهم .
جاء في البحر الرائق :" .. ولأبي حنيفة : إن هذه قربة في معتقدهم ، ونحن أمرنا أن نتركهم وما يدينون ، فيجوز بناء على معتقدهم ، ألا ترى أنه لو أوصى بما هو قربة حقيقة وهو معصية في معتقدهم ، لا تجوز الوصية اعتبارا لاعتقادهم فكذا عكسه ،ثم الفرق لأبي حنيفة بين بنائها ، وبين الوصية بها ، أن البناء ليس بسبب لزوال الملك ، وإنما يزول ملك الباني بأن يصير محرزا خالصا لله تعالى ، كما في مساجد المسلمين ، والكنيسة لا تحرز لله تعالى على ما بيناه ، فيورث عنه ، بخلاف الوصية ، لأنها وضعت لإزالة الملك غير أن ثبوت مقتضى الوصية وهو الملك ، امتنع فيما ليس بقربة عندهم ، فيبقى فيما هو قربة عندهم ، على مقتضاه ، فيزول ملكه فلا يورث ، قال مشايخنا : هذا فيما أوصى ببنائها في القرى ، وأما في المصر، فلا يجوز بالاتفاق ، لأنهم لا يمكنون من إحداث البيعة في الأمصار" 
الرأي الثاني : ذهب محمد بن الحسن ، وأبو يوسف من الحنفية، والشافعيه والأصح عند الحنابلة ومفهوم كلام ابن حزم الظاهري إلى حرمة الوصية ببناء الكنيسة ، بل وبطلانها .
قال ابن القيم :" فلو وصى ببناء كنيسة ، أو بيت نار ، أو عمارتهما ، أو الإنفاق عليهما كان باطلا ، قال في المغني: وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح ، وأجاز أبو حنيفة الوصية بأرض تبنى كنيسة ، وخالفه صاحباه " 
وعللوا قولهم : بأن الوصية ببناء الكنيسة ، وصية بمعصية فتكون باطلة ، لأن في ذلك إقرارا بالمعاصي ، وهذا لا يجوز ، حتى وإن كان جائزا في معتقدهم .
جاء في البحر الرائق :" وعندهما : الوصية باطلة ،لأنها معصية حقيقة ، وإن كان في معتقدهم قربة ، والوصية بالمعصية باطلة ، لأن تنفيذها تقرير للمعصية " 
الرأي الراجح :
يبدو لي بعد العرض السابق لآراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة رجحان ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول ، وهم الإمام أبو حنيفة ، ومن نحا نحوه ، القائلون بجواز الوصية ببناء الكنائس ، وذلك لأن هذا الفعل يعد صحيحا بالنسبة لمعتقد أهل الكتاب ، دون نظر إلى ما نعتقده نحن المسلمين بالنسبة لهذا الفعل ، فطالما أن عقيدة أهل الكتاب تبيح الوصية ببناء البيع والكنائس ، فلا مانع من إقرار المسلم عليه ، وتصحيح تصرفه ، لاسيما وأن ديننا الحنيف ، يدعونا إلى التسامح مع غير المسلمين ، وعدم إكراههم على العقيدة ، كما أن هذا الأمر من شأنه أن يخلق جوا من الود والتناغم بين المسلمين وغيرهم في بلدنا الحبيب مصر ، كما أنه يؤدي إلى القضاء على الفتنة الطائفية ، وفكرة اضطهاد الأقباط في مصر ، وغير ذلك من الدعوات التي تهدف إلى عدم استقرار الوطن ، لذا يبدو لي رحجان هذا الرأي لما ينطوي عليه من تحقيق عدة مصالح للإسلام والمسلمين ، ومن ثم فلولي الأمر أو الحاكم ، أن يسمح بنفاذ مثل هذه الوصايا ، وتنفيذها ، إذا كان محققا لهذه الغاية ، لاسيما وأن تصرفه على الرعية منوط بالمصلحة .
والله أعلم

المطلب الثاني
حكم الوصية لعمارة الكنائس

الوصية بعمارة الكنائس مثل الإنارة ، والوصية بالفرش ، والقناديل المعلقة ، وهو في أيامنا السجاد ، والموكيت ، والنجف ، وغير ذلك من لمبات الإنارة ، ونحوها ، هذه الأشياء اختلف الفقهاء في حكم الوصية بها من المسلم للكنائس على رأيين :
الرأي الأول : ويرى القائلون به صحة الوصية بما يؤدي إلى عمارة الكنائس من فرش وإنارة ونحو ذلك ، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام أبو حنيفة ، والقاضي من الحنابلة والشافعية في كنائس المارة 
وذهب الشافعي إلى القول بجواز الوصية للرهبان ، 

قال في الأم :" ولو أوصى أن يعطي الرهبان والشمامسة ثلثه ، جازت الوصية ، لأنه قد تجوز الصدقة على هؤلاء " وذهب بعض الشافعية إلى الجواز ، إذا قصد بالعمارة انتفاع المقيمين ، والمجاورين بالإنارة ونحو ذلك . 
وحجة هذا الرأي ما يأتي :
1 ـ إن الوصية للكنائيس بالعمارة حيث لم يقصد المسلم تعظيمها تصح ، لأن الوصية لأهل الذمة صحيحة .
2 ـ إن عمارة الكنائس ، والقيام عليها بما يصلحها ، قربى في معتقد أهل الكتاب ، ونحن أمرنا أن نتركهم وما يدينون ، فيجوز بناء على معتقدهم . 
قال الكاساني :" وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ : أن الْمُعْتَبَرَ في وَصِيَّتِهِمْ ما هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ ، لَا ما هو قُرْبَةٌ حَقِيقَةً ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقُرْبَةِ الحقيقية ، وَلِهَذَا لو أَوْصَى بِمَا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لم تَجُزْ وَصِيَّتُهُ ، كَالْحَجِّ ، وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ما هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ ، وقد وُجِدَ ، وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لهم فِيمَا يَدِينُونَ ، كما لَا نَتَعَرَّضُ لهم في عِبَادَةِ الصَّلِيبِ ، وَبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ " 
الرأي الثاني : ذهب محمد بن الحسن وأبو يوسف والشافعية والحنابلة في الأصح عندهم ، إلى حرمة الوصية بما يؤدي إلى عمارة الكنائس من إنارة ، وفرش ، ونحو ذلك .
قال ابن القيم :" فلو وصى ببناء كنيسة ، ، أو بيت نار ، أو عمارتهما ، أو الإنفاق عليهما ، كان باطلا ، قال في المغني: وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح "
وعللوا قولهم : بأن هذه الأمور باطلة ، لأنها معصية حقيقة ، وإن كان في معتقدهم قربة ، والوصية بالمعصية باطلة ، لأن تنفيذها تقرير للمعصية " 
قال الكاساني :" وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هو مَعْصِيَةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ " 
قال ابن القيم :" ولأن ذلك إنما هو إعانة لهم على معصيتهم ، وتعظيم لكنائسهم " كما أن هذا من قبيل التعاون على الإثم والعداون ، وهو محرم لقوله تعالى :" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "
الرأي الراجح : 
يبدو لي بعد العرض السابق لآراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسالة ، رجحان ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول ، القائلون بجواز الوصية لعمارة الكنائس من إنارتها ، ووضع الفرش بها ، ونحو ذلك ، لأن هذه الأمور مما يعتقد أهل الكتاب حله ، وقد أمرنا بأن نتركهم وما يدينون ، وإذا كنا قد رجحنا القول بجواز الوصية ببناء الكنسية من المسلم ، فيجوز الوصية بما دون البناء من باب أولى . والله أعلم

0 تعليقات:

إرسال تعليق