Ads

الشخصية الإرهابية والطبيعة الثقافية


دكتور عادل عامر
فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل فى هدوء بين جنبات الوادى السهل المنبسط , ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والإسترخاء , وخرير المياه فى القنوات والترع , وأنين السواقى وهى تروى عطش الأرض , ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة , والسماء الصافية معظم فصول السنة , والشمس المشرقة على مدار العام , والمناخ المعتدل صيفا وشتاءا والذى يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة . هذه هى الطبيعة التقليدية التى عاش فيها المصرى على ضفتى النيل وتركت بصماتها على شخصيته فى صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة . هذه السمات لاندركها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون فى بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة , أو من يعيشون فى بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف , أو من يعيشون فى غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر فى كل لحظة , أو من يعيشون فى القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثيابا ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها .
وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفاتا إيجابية فإن لها أيضا جانبا سلبيا ,  حيث منحت المصرى شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به فى بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الإستقرار الذى يصل أحيانا إلى حالة من الجمود . فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لاتتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة , بل تميل إلى الإستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله . وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصرى للوداعة والطمأنينة والإستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير , وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الإستبدادى على مدار التاريخ المصرى , فقد كان الحاكم يبدأ بسيطا متواضعا ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادى الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين , وشيئا فشيئا تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب , والحاكم يعرف دائما أن الشعب المصرى لا يميل إلى  الثورة خاصة فى أشكالها العنيفة . فخلو الطبيعة المصرية – نسبيا - من الزلازل والبراكين  والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبى لاستمرار الإستقرار واستقرار الإستمرار , وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين فى الإستقرار والوداعة وراحة البال . وذكر ابن خلدون فى مقدمته : " أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح ,  والخفة ,  والغفلة عن العواقب " . وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم , وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة فى الراحة والإستقرار . وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبى المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون , وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن
أن الثقافة لا تحقق نفسها إلا ضد الأصالة والخصوصية، وأن التاريخ لا خصوصية له خارج أسئلته، والثقافة ليست دائما ذلك التعبير الأصيل. هناك فقط توجه يدعي الأصالة لنفسه، لأنه يتشبت بحقائق الماضي. لكن الأصالة قد تفهم أيضا كوفاء للحاضر، كوفاء للأحياء لا للأموات، لحاجات الإنسان وأسئلته الملحة. ومزج الجابري بين الثقافة والأصالة، أو اختزال الثقافة في الأصالة هو رفض للتعدد وحجب لدور الآخر وتأثيره، وتناس لحركية الواقع وأسئلته. إن الثقافة الأصيلة هي أشبه بنعامة تدفن رأسها بالرمل، والرمل قد يعني الذكريات إذا استعملنا لغة الجابري الرومانسية، وقد يعني نصوصا تغتصب التاريخ وعمائم تبتلع الحاضر والإنسان. والقول بأنه ليست هناك ثقافة عالمية بل ثقافات، قول فيه الكثير من التفاؤل المجاني، ذلك أن الثقافة اليوم تنحو نحو العالمية، إبداع من الآخر وقراءة وتقليد من الأنا، تختفي الأنا خارج التاريخ، إنها أشبه بالمصريين القدامى الذين ظلوا دائما أطفالا لأنهم لم يتجاوزوا جدران المعبد. إن الآخر يفرض ثقافته، ليس لأنها إنسانية، متحضرة أو عقلانية، ولكن لأنها ثقافة الأقوى، أما الضعيف فلا ثقافة له، وقد تكون له ذكريات! أمس منحتنا الثقافة اليونانية فكرة "العقل"، واليوم تمنحنا الثقافة الأوروبية فكرة "التاريخ"، وكما ضيعنا العقل، ها نحن نواصل اليوم وبإصرار أعمى نفي التاريخ، أو نفي أنفسنا خارجه. أما أطروحة الجابري الثانية، ذات النغمة الدينية المطلقة، فتؤكد أن الهوية مستويات ثلاث: فردية وجمعوية ووطنية قومية. إضافة إلى أن هذا التقسيم اعتباطي، وخصوصا في ظل مجتمعات قومية أو أصولية تعادي الفرد وتقمع حريته وتسجن حاضره بماضيه، فإننا نؤكد مرة أخرى أن لا هوية للثقافة، وأن الثقافة المتنورة تقف ضد كل هوية، فالهوية منطق انكفائي وعقل جوهراني، والثقافة التاريخية نقد وجدل مستمران، وهذا ما يميزها اليوم عن الأمس. أمس كانت الثقافة تتمركز حول هوية أو نص أو عقل محدد، أما الثقافة التاريخية فهي صيرورة لا هوية، وربط الأنا بالهوية هو فرض للماضي على الحاضر واستسلام لاجتهاد السلف. وتقول الأطروحة الثالثة أن الهوية الثقافية لا تكتمل إلا إذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والأمة والدولة. ويقول الجابري معرفا الوطن:"الأرض والأموات، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا يعمر قلب كل مواطن". أي معنى للوطن يقدمه الجابري؟ وأية لغة طلسمية يستعملها؟ الوطن هو الأرض والأموات. أوَليس مثل هذا التفكير هو من حول الوطن إلى أرض موات؟! لما لا نقول بأن الوطن هو الرغيف المسروق الذي يجب انتزاعه من جديد، أو هو العدالة الاجتماعية، أو هو الحرية السياسية أو هو الإنسان الذي عفرت آدميته بالتراب. لكم كان صادقا ذلك الشاعر العراقي المنفي حين قال: "نحن اثنان بلا وطن يا وطني". ومن قال بأن الأموات هم التاريخ؟ الأموات هم الماضي، هم الماضي الذي مازال يرخي سدوله المدلهمة على الحاضر. والأمة ليست نسبا روحيا. الأمة مشروع سياسي مؤجل. الأمة ليست نصا نهائيا، ومتى أرادت أن تخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فعليها أن تنجز نسبا جديدا، نسبا مع التاريخ. فليست الأمة ما أنجزناه، ولكن ما يجب أن ننجزه..
إن العولمة التي يحاول بعض مثقفي المقاعد المريحة إقناعنا بأنها قدر الإنسانية الذي لا بد منه ولا مفرّ، هي أيديولوجية دوغمائية مغلقة، تهدف إلى تحويل الإنسان أو ما تبقى من إنسانيته إلى مستهلك خاضع وعقل تقبلي وإرادة طيّعة. إذ أنه في عالم العولمة لا مكان للآخر الذي يفكر وينتقد، لأن من شأن ذلك أن يثير القلاقل ويقف ضد عجلة التاريخ، عفوا، ضد الرأسمالية. في عالم العولمة الأحادي البعد، الإمبريالي المعنى، يطالعنا "الواحد" من جديد، هذه النظرة إلى العالم التي سيطرت على الفكر الغربي منذ العصر اليوناني. إن هايدغر قد بين بوضوح في "الهوية والاختلاف" بأن الفلسفة الأوروبية منذ أفلاطون تأسست على الواحد، على الهوية وأقصت الآخر، المختلف والمتعدد(6). إن فلسفة الواحد، التي تعتبر العولمة الامتداد الطبيعي لها، هي بلا شك فلسفة كليانية. والمجتمع المعولم هو مجتمع تختفي فيه المعارضة، مجتمع سجين ثنائية الخير والشر. وإذا كان نقد هايدغر يظل نقدا مدرسيا، فإن هربرت ماركوزه، أحد أبرز وجوه النقد الاجتماعي، قد قدم نقدا تاريخيا وملومسا للمجتمع الرأسمالي. إن النظرة النقدية عند ماركوزه هي تفكيك لصناعة الوعي وصناعة الثقافة في المجتمع الغربي. نقد لمجتمع الاستلاب والعقل التقبلي، عقل أشبه ما يكون بذلك الذي عبر عنه هيغل في أصول فلسفة الحق قائلا: "ما هو عقلاني هو واقعي، وما هو واقعي هو عقلاني".إن ماركوزه يصف المجتمع الرأسمالي في كتابه المركزي "الإنسان ذو البعد الواحد" كمجتمع لاعقلاني. وهذه اللاعقلانية ترجع إلى سوء استغلال وتنظيم الثروات. سوء الاستغلال هذا، هو الذي يقف وراء التدمير المستمر للتطور الحرّ للحاجيات البشرية.

كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية

0 تعليقات:

إرسال تعليق