Ads

الاغتيال الثقافي


دكتور عادل عامر

إن عملية القصف الإعلامي هذه يمكن تسميتها بعملية الاغتيال الثقافي لهذه الدول ـ وعلى رأسها الأمة الإسلامية والدول العربية ـ حتى تتهدم مقوماتها وتنهار قواها؛ فتنسحب من ساحة الدعوة والتبشير بالإسلام وتنشغل بما يصدر إليها لتكون السيطرة على العالم خالصة لهم بلا منازع.. الأمر الذي يحرض أعداء الفكر والحرية على إصدار فتاوى التكفير ومن ثم شرعنه القتل والاغتيال.

 إنه توجه عام يطبع كل المجتمعات العربية، وإن كان يخص دولة مصر التي حولت مؤسسة القضاء إلى محكمة تفتيش الضمائر بتحريض وتزكية من مؤسسة الأزهر.

لقد كتب على الفكر أن يظل طريدا بين الاغتيال والمصادرة منذ عصور الانحطاط إلى يومنا هذا . ولم تدرك مجتمعاتنا أن خلاصها وتحررها من خلاص الفكر وتحرره .

إن وضعية الاغتيال الثقافي أنتجت ظاهرة خطيرة تتمثل في انخفاض المستوى الحضاري لدى غالبية المواطنين ، إن ما نراه اليوم من انحلال أخلاقي وابتعاد عن المبادئ الراقية للدعوة الإسلامية، وانكفاء على الذات، ومحبة للنفس أو ما يسمى في الحقيقة أنانية، ولا مبالاة عند رؤية المنكرات أو عدم حركة لنصرة المظلوم ومساعدة الضعيف، ونسيان حق الجوار وصدق الصحبة وإكرام الضيف، وانعدام أو قلة المروءة وصيانة الأعراض.....إلى آخر هذه المبادئ التي أرساها الدين وقبلتها الفطرة الطاهرة، إنما هو انتكاس عن أخلاقيات الإسلام والعرب إلى مفاهيم الغرب؛ إذ هي حياتهم ومبادئهم وهو ما نستطيع أن نختصره في كلمة الغزو الثقافي أو العولمة.

علاقة العرب بثقافتهم علاقة معقدة ومتناقضة تتراوح بين الرفض المطلق والقبول المطلق. البعض يراها سبب التخلف والبعض الآخر ينظر إليها كخشبة الخلاص. يحاول هذا الكتاب أن يبين محنة الثقافة العربية ليست إلا مظهرا لمحنة الذات العربية وتشتتها بين التأكيد الشكلي للذات والرفض السلبي للآخر.. ضد الحداثة المضيّعة، والسلفية المفقرة، والتوفيقية السحرية..

إن للذاتية بابا تطل منه على التاريخ وتبدعه في الوقت نفسه الذي تؤسس فيه نفسها كذات مبدعة العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري.. ويدخل في السياق نفسه التبرج والسفور وتسويغ الكثير من المحرّمات الأخرى، كشرب وأكل أطعمة ولحوم غير حلال، وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية.

 فكثير من البلدان الغربية تفرض على المسلمين القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يوجد هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات. كما أن توجه الكثير من شبابنا وفتياتنا نحو الموضة الغربية ومحاكاة أنماط وسلوكيات الغربيين البعيدة تماما عن قيم الإسلام ومبادئه؛ إنما هو أكبر دليل على أن هذا الغزو الثقافي قد أثمرت بذرته وبانت نتيجته وآتى أكله. والثمرة المرة لدينا ـ ولكنها القطاف اليانع عند الغرب ـ هو ما يحكيه محمد شمس الحق في كتابه "الدعوة إلى الله"

 حيث يقول: "من المعلوم بداهة أن شبابنا بعد وقوعهم تحت سياسة القولبة الثقافية بأشكال وأنماط الحضارة الغربية وجريان الذوق الغربي في شرايينهم يصعب دعوتهم في الأسرة والمدرسة وأماكن العبادة ـ هذا إذا بقوا موجودين فيها ـ للالتزام بقيم الإسلام الفاضلة، وما يؤكد عليه هذا الدين من المثل العليا والأخلاق الكريمة؛ وذلك بسبب انفصام شخصيتهم وتحولهم إلى ضياع في الهوية والشخصية والهدف".كان للعرب موقف مختلف. في ضحى الإسلام استعانوا، في جرأة علمية متناهية، بالفلسفة الإغريقية لإثبات الإيمان بالدين، من خلال المنطق والعقل.

 ثم بعد غفوة عقلية استمرت ألف سنة، أفاقوا على وقع أقدام الثقافة الأوروبية الغازية، فحاولوا التوفيق بين الدين والعقل مرة أخرى. عندما حيَّد العرب المؤسسة الدينية التقليدية واجتهاد القرون الوسطى الحربي المجمِّد للعقل، قامت الآيديولوجيا الإخوانية بالارتداد على الإسلام الإصلاحي. ثم ما لبثت الجمودية الإخوانية التي أدلجت الدين وسيَّسته،

 أن فَرَّخَتْ جموديات «حربية» على يمينها استغلت انحياز الغرب ضد العرب، للدخول في صراع ثقافي انتحاري متخلف وساذج وغير متكافئ مع «الكفر» الغربي.

 وهكذا، فالثقافة العربية من خلال أدلجة الدين وتسييسه، وَزَجِّهِ في معارك وحروب غير متكافئة، هذه الثقافة يمكن اعتبارها متخلفة في المستويين السياسي والحضاري. بدلا من أن يقتبس العرب، كما فعلت شعوب آسيا الصفراء، التقنية الحضارية الغربية للإبداع والتطوير والمنافسة العلمية والإنتاجية الصناعية، فقد انشغلوا وغرقوا إلى ذقونهم ولحاهم في صراع ثقافي ديني مع الغرب مؤجِّلٍ للتنمية وللتطوير الاجتماعي.

شكرا لعلمانية أوروبا التي رفضت الانضمام إلى مرجعية بوش/ تشيني الدينية في شن حرب على العرب باسم مكافحة الإرهاب، وإلا كيف يمكن للعرب وللمسلمين أن يواجهوا حربا دينية مع غرب متدين روَّع ودمر الوطن العربي في القرون الوسطى؟الثقافة، إذن، يمكن أن تكون متخلفة. أدلجة الثقافة الدينية (الآيديولوجيا في مفهومها السياسي ومعناها اللغوي هي أقرب إلى الشعبوية الغوغائية منها إلى المبدأ والعقيدة) وتسييسها فجَّرا أيضا صراعا ثقافيا داخل البيت العربي.

 تسييس الدين أيقظ الذاكرة العربية على صراع طائفي متخلف ينال من طهارة الدين وبراءته القداسية. أعلن صعود الهيمنة الأوروبية، والغربية عامة، في العالم أجمع، نهاية المدنيات الكلاسيكية، وبداية تحلل بنياتها الأساسية، وأدخلها في أزمة تاريخية طويلة مادية وروحية، ولم تكن المدنية العربية بمعزل عن هذه الهزة التاريخية، بل كانت في قلبها. وقد أدى تأكد الغلبة الجديدة العسكرية والحضارية منذ القرن الثامن عشر إلى تحلل أكبر إمبراطورية إسلامية تدريجياً وتطاير أشلائها، في مطلع القرن العشرين، في كل الاتجاهات.

 لقد نخرت هذه الغلبة الأسس الثابتة والتقليدية للهيمنة الداخلية والسلطة الاجتماعية، وأفقدت نظمها القائمة، الاقتصادية والعقلية، فاعليتها وتأثيرها. لذا وفي إطار البحث عن توازنات جديدة عقلية وسياسية واقتصادية منذ انهيار السلطنة العثمانية، وبحافز مقاومة التحلل الكامل والتلاشي تحت ضغط المرحلة الاستعمارية التقليدية، حاولت الجماعة العربية في نهاية القرن الماضي وحتى منتصف هذا القرن محاولات متعددة لإعادة تكوين عناصرها ولحمها وتشكيل نفسها كمدنية فاعلة ضمن الحضارة الجديدة، أي كذات مستقلة وعاملة.

ونحن نقرر هذا لا يعني أننا نطالب بمصادرة حقهم أو إقصائهم، بل على العكس، فكل البرامج السياسية، للحركات الإسلامية تقر بالتعددية والحق في المعارضة، لا تدعي امتلاك الحل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحدها.. بل مشروعها الانتخابي مشروعا يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب كغيرها من الفرقاء السياسيين، لأنها تعتبر السياسة الشرعية من الفروع التي يحكمها منطق الصواب والخطأ، فكل سياسة حققت العدل، وساست الناس بما يكونون معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد فهي مقصود الشارع، فالشريعة كما هو موقف علمائها الذي يحكيه ابن القيم "عدل كلها ورحمة كلها... فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الظلم فليست من الشريعة ولو أدخلت فيها بالتأويل لقد خاض المسلمون مع أوربا والغرب معارك من أجل الوجود، من أجل إثبات الذات، حيث حاول الغرب في العصر الحديث فرض قيمه ونموذجه الحضاري، بل اعتبر مفكروه أن الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ،

كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية 

0 تعليقات:

إرسال تعليق