Ads

جاء العيد


ها هو العيد يقف على أعتاب مدننا المتحفزة ذاهلا، يقدم رجلا ويؤخر أخرى لا يدري في أي اتجاه يسير ولا أي درب يسلك بعد أن عاش دهرا أدرى بشعاب مصر من أهلها. يأتينا العيد اليوم زائرا غير مرغوب فيه بعد أن احتلت الشعارات الكاذبة ميادينه الواسعة، واستبدل مريدوه تكبيرات إحرامه بكبائر محرمة، وتداعوا لاقتتال في الأشهر الحرم. يقف العيد على بوابات مدننا مطرقا لا يدري من أين يذهب ولا كيف يعود، فكل دروبنا مخضبة بدماء هابيل، وكل فوهات شوارعنا مغلقة بدبابة أو مدرعة يتصدرها رجال صدقوا ما عاهدوا جنرالاتهم عليه، مستعدون لإطلاق الرصاص الحي على أي صدر حي في كل شارع وفي كل حي، لكنهم رغم كثرة عددهم وجهوزيتهم للقنص، لم يحملوا لأطفالنا في جيوبهم النشغولة بالرصاص هدايا العيد .
تقاسم العسكر والإسلاميون ميادينك الربيعية أيها العيد، فلم يتركوا مساحة صغيرة لأرجوحة يعلق في سقفها أطفالنا أحلامهم، ولا في الفضاء فراغا يكفي لطائرة ورق، إذ شغلوها بالألعاب النارية والليزر وأقمار كاذبة وطائرات حربية مرابطة منذ عقود، أو هكذا يقولون. وتحول المتحابون فيك إلى كرامازوفيين أثرة، ومهدوا لاستقبالك بمفاجآت لا تسر.
خصخص الإسلاميون المحاريب وبسطوا ألسنتهم في الشريعة حلا وتحريما، ووضع العسكر أياديهم على فدادين القمح التي تركناها في سنبلها تحسبا لسنوات حربنا العجاف مع طرف ثالث لا يضرب إلا في المليان ولا يقتات إلا على اللحوم والدماء. وتأخر الملاك فلم ينزل بكبش سمين أو بصك غفران، فجزت الشفرات الحادة رقاب الواقفين على أعتاب الذبح من الوريد إلى الوريد، ولم نجد غرابا يعلمنا كيف نواري سوءة الراحلين، فألقينا جثثهم كجيف نتنة في مزابل الثورة، ولم نصل على أحد منهم مات أبدا أو نقم على قبره لأن الخوارج لا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، أو هكذا يقولون. 
وكما أغلق الرأسماليون لون البحر وزرقة السماء، أغلق الإسلاميون طرق الخلاص ولم يسمحوا بمرورنا إلى مدن الحلم التي كانت لنا حتى حين إلا من تحت آباطهم. وكاد لهم العلمانيون فأخرجوهم من حيث أخرجوهم، وحولوا الديمقراطية إلى محظية ترقص في قنواتهم التافهة لتميل بقدها حيث يميلون، فتحول الوطن الدافئ إلى يمين لا يقر إلا رأيه ولا يحل إلا حلاله، ويسار لا يعترف بحرية إلا لمريديه ولا يشرعن ثورة إلا في ميادينه الضيقة. وهكذا، لم نجد لأقدامنا المحايدة في أرض الخلاف إلا ميادين التجاهل الإعلامي الفظ، والتغافل اليميني المتطرف. 
كنا ملح الأرض وورثة الأنبياء قبل أن تحتل الدبابات وصيحات التهليل الماكرة مدننا الآمنة لتخرجنا من ميادين الحلم حفاة عراة. لم نكن نضع المتاريس عند بوابات المدن ولا نضع خيالات مآتة فوق خصور قمحنا لنرد الطير القادم من كل فج عميق كسيفا طاويا، لأن زروعنا كانت تكفي خطوط القناعة الممددة فوق جباهنا الراضية وتفيض. واليوم تطاردنا صيحات المتدينين الكاذبة وطنطنات الإعلاميين المغرضة حتى آخر حدود الأمل وحدود الرغيف.
ضاقت علينا أرض الوطن أيها العيد بما رحب، وضاقت علينا ميادين الربيع الحبلى بالعنصرية والنفاق، وضاقت مدارسنا وجامعاتنا بحياديتنا ومنطقنا. وضاقت علينا الأرصفة بحجارتها المتحيزة والمتحفزة للخلع عند كل مظاهرة. فكيف نقف اليوم معتدلي القامة في وطن ترصف أسلاكه الشائكة عند كل ناصية وميدان؟
لا تبتئس أيها العيد، فمصابك مصابنا، وحيرتك من حيرتنا. لكننا عازمون على بعث أحلامنا المنسية، ومصممون على شق طرق جديدة في لجة هذا الخبل الذي أصاب أبناء الجيل. سنحمل بسطنا ونبحث عن طرق لم ترق فيها الدماء وميادين لم تسكب فيه العبرات أو تشهر فيها الأسلحة، ونقابل الجميع بالأحضان المشرعة والقلوب المفتوحة على مصاريعها ونقبل أيادي الكبار ورؤوس الصغار وندس في أياديهم المفتوحة فرحة العيد ونكبر لإله واحد غير قابل للخصخصة كما لم نكبر قط، وبعد خطبة نرجو أن لا تكون موجهة، سنعود من طريق غير الذي أتينا منه ونحن نرسم على وجوهنا مشروع بسمة وتفاصيل أمل يتخلق في رحم الوطن بعودة الحكمة والرحمة إلى عقول وقلوب أبنائه، وعودة الإله إلى قلوب لطالما أقفرت منه.
عبد الرازق أحمد الشاعر

0 تعليقات:

إرسال تعليق