د.حنان عز العرب
ترجع فكرة المصالحة إلى تعاليم مختلف الديانات، كما أن لها أصلاً فى التقاليد الأفريقية التقليدية القديمة، ولكن ظهور الفكرة في المجال السياسي حديث نسبياً يرجع إلى نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادى والعشرين، وقد اقترنت بالحديث عن بناء السلم، لأنها مكون أساسى من مكوناته، حيث أصبح بناء السلم كمفهوم له شعبية متزايدة خلال تسعينيات القرن الماضى، منذ استخدامه من قبل الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في إعلانه خطة السلم عام 1992، وهكذا انتشرت فكرة المصالحة من منطلق أن العلاقات بين الدول تتطلب اهتماماً لبناء السلم، وهى تعتبر عملية معالجة العلاقات المتنازعة والمنقسمة وتشمل أنشطة مختلفة للوصول إلى علاقات ايجابية، وهى مفهوم حديث نسبياً في حقل حل وإدارة الصراع.
وقد بدأت المصالحة بداية برجماتية لتحقيق المصالح حين ظهرت الحاجة إليها سياسياً واجتماعياً فى مجتمعات ما بعد العنف، وفى دراسة لجميع البلدان التي شهدت حروباً أهليةً في القرن العشرين، وُجد أنه بالنسبة للبلدان التي طبقت برامج المصالحة فإن حوالى 64٪ منها لم تعد إلى صراع عنيف مرة أخرى. بينما البلدان التي لم تطبق برامج المصالحة فقط لم يعد حوالى 9٪ منها إلى الحرب. وهذا يدعم الفكرة القائلة بأن المحاولات السياسية في المصالحة بعد الصراع الداخلي أمر أساسي في السعي من أجل السلم.
وقد حقق المصطلح مكاسب متزايدة في استخدامه، ويتم الحديث عنه كثيراً، كما أنه على جداول أعمال جميع فروع المجتمع الدولي. تدعمه الجهات المانحة، وتدرجه المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية في جداول أعمالها، وقد شُكِّلت منظمات جديدة خصيصاً لتعزيز وتنفيذ جوانب منه. وتطلب المبادرات الحكومية تنفيذ برامج المصالحة كجزء من الاتفاق، أو كجزء من عملية الإصلاح في مرحلة ما بعد الاتفاق على الصعيد الوطني في حالات الصراع بين شرائح من المجتمع.
وتكمن أهم أسباب زيادة التركيز على المصالحة أن أغلب الصراعات الحالية تقريباً هى صراعات داخلية- داخل الدول- ويكون على الأعداء السابقين- الجناة والضحايا - أن يعيشوا معاً بعد إرساء السلم جنباً إلى جنب كما كانوا قبل ارتكاب الفظائع، ومع ذلك تحتاج إلى تغيير المواقف والتصرفات من عنف إلى مواقف جماعية تطلب تنفيذ المصالحة في لحظة إعلان السلم.
وتنبع أهمية المصالحة فى عواقب عدم تعزيزها، فالعديد من اتفاقات السلم تكون بمعزل عن المصالحة، وهذا يعني أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق على وقف القتال، ولا يتم إنجاز سوى القليل نحو سلام مستقر مستدام، وبدون مصالحة يكون أفضل أمل وقف المواجهات المسلحة مثل التي شهدتها قبرص منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً. ففي عام 1964اتفق الجانب التركى مع منافسه اليوناني على وقف فوري لإطلاق النار، وتقسيم مؤقت للجزيرة، وإدخال قوات الأمم المتحدة لحفظ السلم. ولم يتم تبنى أى برامج للمصالحة، ولذلك لم يُحرز تقدم يذكر نحو حل الصراع، ولم يعد ممكناً أن يزور القبارصة اليونانيون الجزء التركي من الجزيرة، والعكس بالعكس، بل يمكن أن يندلع القتال من جديد.
ومن الأسباب الأخرى أن استراتيجيات إدارة الصراع ليست كافية للتعامل مع أنواع الصراعات المعاصرة المستعرة في أجزاء كثيرة من العالم- ولاسيما منذ نهاية الحرب الباردة- فقد حلت الحروب الأهلية محل الحروب بين الدول ومعظم الصراعات السائدة هى صراعات اجتماعية. ففي الصراعات بين الدول تطبق استراتيجيات تهدف فقط إلى فصل الأطراف المتنازعة وقد يكون ذلك كافياً حتى لو لم يتم حل القضايا الأساسية للصراع، ويمكن للفصل أن يساعد في تجنب تكرار الصراع مرة أخرى، لأن الدول تميل إلى عزل نفسها عن بعضها البعض من خلال حدودها الوطنية، فإن مهمة قوات حفظ السلم التي تفصلها هو أسهل نسبياً. أما في حالات الحرب الأهلية تكون العلاقات بين أطراف الصراع أكثر تعقيداً. وعادةً ما يشترك الطرفان في نفس المنطقة الجغرافية وفى نفس المجتمع، وقد يكون هناك ترابط اقتصادي قوي بينهما، وعادة ما يكون بينهما كل أنواع العلاقات الاجتماعية الأخرى بما في ذلك الزيجات. في هذه الحالات يكون من الصعب جداً فصل الأطراف عن بعضها. وحتى لو أمكن ذلك لفترة قصيرة، فإنه ليس من المجدي التفكير في استراتيجيات إدارة الصراع مثل الفصل والعزل على المدى الطويل، وحتى القرارات التي تفرضها عمليات الفصل أو أى عمليات أخرى لن تحل الأمر طالما أنه يمكن أن نتوقع ألا يستطيع الطرف الفائز التمتع بانتصاره دون أن يواجه عواقب تغضب الطرف الخاسر.
ولذلك في حالات الحروب الأهلية تكون استراتيجيات إدارة الصراع غير كافية، وينبغى التحرك نحو حل الصراع وعمليات المصالحة بحيث لا يقتصر على القضايا الأساسية للصراعات، والتى يتم حلها بشكل يرضي الجميع فقط، بل أيضا يتم تحويل المواقف والعلاقات العدائية بين الخصوم من السلبية إلى الإيجابية، وعلاوة على ذلك في العلاقات بين الدول- حيث العالم أصبح قرية صغيرة ومصائر الشعوب أصبحت أكثر ارتباطاً وتشابكاً- سيكون من الصعب توقع نظرات أحادية لمناهج معالجة الصراعات مثل فرض الحلول بالقوة. كما أن القيم الديمقراطية التى يحاول النظام الدولي الراهن تعزيزها كقيمة عالمية في جميع المجتمعات في العالم تتطلب المزيد من الحركة التكاملية نحو التفاوض والوساطة والمصالحة والطرق السائدة في التعامل مع الصراع بدلاً من اتخاذ تدابير من جانب واحد يترتب عليها استخدام القسر.
وليست المصالحة عملية ضرورية في كل صراع بين الجماعات، إلا أنها تنطبق على تلك الصراعات بين الجماعات التي تستمر لفترة طويلة- ما لا يقل عن عقدين من الزمن- وتنطوي على عنف واسع النطاق. ويكون هناك تراكم كبير من العداء والكراهية والتحيز بين الجماعات كما تكون الأحداث المتعلقة بالصراع مطبوعة فى الذكريات، وتعكس المنتجات الثقافية المختلفة مشاعر معادية، ويعيش جيل - على الأقل - في مناخ الصراع ولا يعرف واقعاً آخر حيث تظهر إرادة الانتقام، ويمكن تمييز الصراعات العنيفة طويلة الأمد والتي تتطلب المصالحة إلى أنواع مختلفة، البعض منها قد يحدث داخل مجتمع منقسم على القضايا الأيدلوجية، على سبيل المثال، في اسبانيا، والسلفادور، وشيلي، وبعضها قد تحدث داخل البلد الواحد على أساس انقسامات إثنية، أو دينية على سبيل المثال في أيرلندا الشمالية وجنوب أفريقيا وتركيا، والبعض الآخر قد يشمل دولتين على سبيل المثال، فرنسا وألمانيا، والهند وباكستان.
وتعد نتيجة تسوية الصراعات ذات أهمية لفهم عملية المصالحة سواء أكانت النتيجة الرسمية لانتهاء الصراع أن الجماعات المتخاصمة يجب أن تستمر في العيش في نظام سياسي واحد-على سبيل المثال فى جنوب أفريقيا ورواندا- أم سوف تعيش في دولتين منفصلتين- على سبيل المثال الفرنسيون والألمان- كما أن النتائج المختلفة للصراع تتطلب أشكالاً مختلفة من المصالحة. في النموذج الأول، هناك حاجة لإقامة نظام سياسي واحد ومجتمعي واقتصادي وقانوني وثقافي وتعليمي واحد والذي يضم منافسي الماضي، وفي النموذج الثاني يعيش خصوم الماضي في نظامين منفصلين، ومن ثم يتطلب النموذج الأول إنشاء نظام جديد كجزء من بناء التعاون والسلم، وتوثيق العلاقات في المجتمع. والمصالحة في النموذج الثاني تتعلق بالثنائية وعلاقات إثنين من المجتمعات التي تعيش في دولتين مختلفتين.
وبحكم طبيعة المصالحة فإنه يفضل أن تكون عملية من أسفل إلى أعلى حيث لا يمكن فرضها من قبل الدولة أو أي مؤسسة أخرى، أى لا يمكن فرضها على الناس، فعليهم أن يقرروا بأنفسهم ما إذا كان عليهم المغفرة والتصالح مع خصومهم السابقين أم لا ؟ لكن وكما يوضح نموذج جنوب أفريقيا، يمكن للحكومات أن تفعل الكثير لتعزيز المصالحة وتوفير الفرص للناس لمعالجة الماضي.
ومن ناحية أخرى فإن جوهر المصالحة هو مبادرة طوعية لأطراف الصراع على الاعتراف بمسئوليتهم وشعورهم بالذنب. وتهدف التفاعلات التي تتم بين الطرفين ليس فقط إبلاغ المظالم والشكاوى ضد تصرفات الطرف المعتدى، ولكن أيضا للدخول فى تأمل ونقد ذاتي حول دور الطرف نفسه وسلوكه في دينامية الصراع، ونتيجة مثل هذا الاعتراف يتم البحث عن سبل لمعالجة الإصابة التي لحقت بالخصم، والامتناع عن مزيد من الضرر لبناء علاقات ايجابية جديدة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق