كان يا مكان في سالف العصر والأوان عندما كان هناك شهريار وكنت أنا له شهرزاد يحكى أنه في إحدى ليالي الشتاء .. في ليلة عاصفة رعداء .. سمع رجل بكاءاً خافتاً حزيناً آتياً من الخلاء .. أخذت عينيه تجوب الفضاء حوله .. أخذ يهتف من يبكي ؟ من هناك ؟
برقةٍ .. بصوتٍ يشبه الهمس أجابته أنا هنا .. أنظر فوقك .. صوب السماء ..
ينظر فوقه قليلاً .. يجوب الفضاء بعينيه بعيداً بعيداً .. يعيد نداءه الرنان .. من أنتِ ؟ أين أنتِ يا صاحبة البكاء ؟
يجيبه الصوت: يا أنتَ .. أنظر جيداً إلى السماء .. أنا تلك النجمة المتلألئة البعيدة .. أنا تلك المتوهجة الوحيدة .. أنا من ضللت طريقي هذا المساء ..
عذراً سيدتي فأنا رجل لم يسبق له الحديث مع أهل السماء .. سامحيني ولكن كيف تتحدثين كما النساء؟! .. ولماذا تبكين يا سيدة المساء؟! .. والله إن حديثك وبكاءك لعجب العجاب ..
أما عن حديثي .. فقد كنت بالأمس أميرة ممكلة الخيال .. لصوت ضحكي تخرُّ العقول وبجمالي يجنُّ الرجال .. كان لي حظ وافر من الدهاء حتى أني تفوقت على مثيلاتي من النساء ..كنت ومملكتي حديث الممالك والولايات .. كان الرجال يتبارون أيهم يحظى مني برضا الفؤاد .. كان كل من حولي يتقربون إلي وكان قلبي مملكة عذراء .. لم يطأه بشر ولم يغبِّره الهوى لحيظات .. كان أبي الملك" ثائر” ملك مملكة الخيال يرغب في أن يزوجني ولكن أمر زواجي كان كدرب من المحال .. فمملكتي والممالك المجاورة خلت أمامي من الرجال .. توافد علي ملوك وأمراء كلهم أمام دهائي صاروا أغبياء ..
ظل الأمر هكذا لسنوات وسنوات حتى أتى للمملكة زائر .. مجهول مغبر مكفهر حائر .. عاش الغريب بين أهل المملكة .. ما يرضيهم يرضيه وما يرهقهم يرهقه .. لم يعلموا حقيقته أو من هو .. كل ما علموه هو أنه غريب لا أهل له ولا وطن .. رحالة حائر .. اشتغل بالتجارة واشتهر بالشطارة .. تَاجَرَ الغريبُ في كل شيء .. كل ما تشتهيه نفس بالإمارة ..ذاع سيطه واشتهر وفي يوم من عموم أيام الدهر .. صادف الأميرة في إحدى زياراتها للعامة.. لمح موكبها العظيم قادماً .. وحينما اقتربت أمعن النظر .. فلكزه الحارس زاجراً (أخفض القامة يا هذا واكسر النظر(.
لحسن حظ التاجر توقف الموكب أمامه .. أزاحت الأميرة أستار هودجها في رفق .. أنزلت إحدى قدميها إستعداداً للنزول .. فرأى التاجر قدماً مخضباً بالحناء ذات كعب أنثوي ناحر تزينه الخلاخيل والجواهر .. فاسترق النظر .. فإذا به يتجلى وجهها المليح الساحر كما في تمامه البدر ..
نزلت عن هودجها .. تبسمت في رقة .. ركض بعض الأطفال إليها .. أحتضنتهم في حنو وعطف شديدين .. لوحت مودعةً استعداداً للرحيل معلنةً نهاية زيارتها .. كاد قلبه ينخطف معها .. خفق قلبه بشدة .. زاغت عيناه ..
صراخ مفاجيء !!! هرج ومرج !!! يا إلهي !! ما هذا ؟!..
تلقى الغريب عن الأميرة سهم في الصدر ..
صرخت الأميرة .. يا حراس أدركوه .. هلموا أغيثوه ..
حمله الحراس إلى القصر .. رافقتهم الأميرة مرتعبة متوجسة .. صرخت آمرة : "هلموا ضعوه بمخدعي .. أحضرو الطبيب حالاً في أي حال وأياً كان ملبسه “..
وقفت تتأمل في قلق ملامحه .. تعتريها الدهشة من موقفه ..
حضر الطبيب .. أخرج السهم من صدره .. طهَّر الجرح وضمده .. وقبل أن يغادر أخبرها أنه فعل ما عليه والله أعلم بما لديه .. ما عليكم سوى أن تدعوا له .. ومحتمل أن تنتابه حمى فأعينوه عليها بكمادات باردة ..
غادر الطبيب .. أمرت الأميرة وصيفاتها أن يجلبوا المياه الباردة .. جلست برفق إلى جانبه .. سهرت طوال الليل بنفسها تطببه .. نامت العيون إلاعينيها .. ظلت في حنو تتأمله .. ولأول مرة يحدثها قلبها برجل "ما أوسمه .. يشبه الفرسان في طلته" ..
ظلت على هذا الحال أيام وليال .. لم تذق عيناها النوم ولو لدقائق .. لم تفارقه سوى لمواقيت الصلاة .. كانت تفترش الأرض بجانبه لتصلي .. تتضرع لله أن يُتِمَّ شفاءه وأن يُري النور من جديد لعينيه ..حتى جاء الفجر في يوم بالخير بين يديه .. أذن المؤذن للصلاة .. همَّت وتوضأت وفي الصلاة جوَّدَت .. وفي الدعاء بعذوبة صوتها وملاحة كَلِمَها أسهبت .. فاستيقظ التاجر على صوتها الساحر وتمتم في ضعف الحمد لله الذي هداني أن أدركك ..فهرولت إليه مسرعةً .. حمداً لله على سلامتك .. ماذا أفعل لأكافئك فكل الشكر لا ينصفك ؟..
يا حراس .. أرسلوا في طلب الطبيب .. لقد استفاق التاجر الغريب ..
حضر الطبيب .. كشف على المريض .. شفي المقدام يا أميرتي تماماً .. وإن أراد أمكنه اليوم الرحيل ..
بعدما أشرق وجه الأميرة لخبر شفاء الغريب .. تلبد بهموم الفراق الأكيد .. ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها ورسمت ابتسامة رقيقة على ثغرها وتمتمت إذا هو الوداع أيها النبيل .. ولكن قبل الرحيل كن ضيف أبي الملك "ثائر" .. يا خُدَّام حضِّروا المآدب سيصل الملك من سفره بعد قليل ..
وصل الملك في موكب عظيم مهيب .. ارتمت الأميرة بين أحضانه .. لمعت بعينيها دمعة لم يلحظها سواه .. فانخلع قلبه عليها وانتفض .. ماذا بك صغيرتي ؟؟
نظرت إليه وكأنها تشتكي ما أوشك من فراقها إليه ولكنه لم يدرك بعد أي موقف لديه .. أخبرته بالحكاية كاملة ولكنها أغفلت جزء افتتانها عن عمد في حكيها إليه ..
أمر الملك بأن يأتي الغريب إليه ..
دخل الغريب على الملك في وقار وأدب .. حيَّاه وجلس بين يديه ..
في عظمة وقوة قال الملك أحكي يا غريب حكايتك ..
تردد الغريب وبعد سكوت دام برهة .. قال اعفيني أيها الملك العظيم فأنا لا أعلم لي حكاية ومنذ زمن وأنا شارد غريب .. لا أعلم لي أهل ولا وطن .. وإنَّ ما لدي لأحكيه يا مولاي لهو قليل القليل .. أما عن اسمي .. فكل من مررت بهم لقبوني بالغريب ..
صمتَ الملكُ للحيظات .. تفرَّسَ في وجه الغريب بحثاً عن صدق أو كذب .. كان الملك قد أيقن ما كان من حال ابنته وأنه أمام غريب رغم ظاهره الملائكي مريب ..
بماذا شعر الملك ؟ وهل صدق في شعوره بالغريب ؟ وما هي حقيقته وما كان من سر لديه هذا ما سوف نعرفه في ليلة قادمة ..
مولاي حل الصباح وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح عذراً أدركني الصيّاح .. مولاي
***
انتظروا باقي الليالي كل يوم بعد الفطار
تحياتي/ رانيا حمدي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق