سحر عبد القوي
لليل لغةُ أخري...يفرضها كما يفرض على الشمس انسحابها...ويفرض على السماء ارتداء السواد...يستبيح الأوجاع فيزيدها...يؤرق الوحدة فتؤرق المعذبين بها... يفرض الواقع على الحالمين...وفى الليل تزداد معاناة كل صاحب شكوى وكل صاحب آه...لليل قانون خاص... و"هى" تتامل حالها كل ذات ظلام...فلم تكن تتوقع أن يصل بها الحال إلى هذه الدرجة من التردي...وأن يكلفها هذا الأمر كل هذا التخفي والتواري ...نعم تدرك
لليل لغةُ أخري...يفرضها كما يفرض على الشمس انسحابها...ويفرض على السماء ارتداء السواد...يستبيح الأوجاع فيزيدها...يؤرق الوحدة فتؤرق المعذبين بها... يفرض الواقع على الحالمين...وفى الليل تزداد معاناة كل صاحب شكوى وكل صاحب آه...لليل قانون خاص... و"هى" تتامل حالها كل ذات ظلام...فلم تكن تتوقع أن يصل بها الحال إلى هذه الدرجة من التردي...وأن يكلفها هذا الأمر كل هذا التخفي والتواري ...نعم تدرك
أن مشكلتها كانت تنمو وتشب وتكبر معها...لكنها لم تكن تتصور أنها
ستقودها إلى هذه الدرجة من الضياع...حتى أسكنتها فى مكان خارج نطاق الكون...حيث مجرة اللا انتماء...حيث يقيم جميع
المطرودين من الكوكب لاختلافهم أو لاختلال معاييرهم بعض الشىء...
بعض الشيء..؟ ولكن اختلاف "شاهندة" ليس من النوع الذي يجوز توصيفه "ببعض الشيء"...إنه
اختلاف يسبب الحيرة والارتباك لأدواة الإشارة...ونون
النسوة...والضمائر...هو اختلاف تتوعك لأجله اللغة...وتحتار المفردات... اختلاف قادها لترك عملها...وترك صديقاتها...والخوف من طرق أبواب
صالونات التجميل...إنه اختلاف قد يؤدى اكتشافه لنوع من الاقصاء الاجباري....والرفض المجتمعى... فقررت ان تفرضه
على نفسها بنفسها بانسحابها الإختياري...
تترك جسدها المتعب يتمدد على الأريكة المواجهة لمنضدة وضع عليها جهاز لاب توب مفتوح...تنتظره يظلم حتى يعم الظلام حولها و يتمكن عقلها من ارتياد عوالم لا تجرؤ على وطئها فى وجود الضوء...الضوء ذلك الكلمة اللامعةالأحرف...التى تسكب أشعتها على ما حولها من حروف وأفكار فتزيدها بروزا...نتوئا...فجاجة...وقاحة...وضوحا...وهى أشياء لا تبدو أنها ترغبها أو مستعدة لها....خصوصا وهى تحمل نوعا من الاختلاف كفيل بأن يثير كل تلك المعانى حتى فى وجود عموم الظلام....
لم تكن تتبادر لذهنها تلك الأفكار قبل عشرة
أعوام...تحدق النظر فى ماضيها...كان الضوء حينها ينعكس على الأمل الذي يصارع الغرق....أما الآن فيبدو أن أمواج بحر
الواقع قد أغرقت آخر بصيص للأمل...عندما داهمتها الطبيبة بحقيقة وضعها الغيرقابل للعلاج او
التعديل...
"علاجك الوحيد يا
شاهندة هو المسكنات"
"والعملية يا
دكتورة"
"للاسف العملية
أضرارها أكتر من منفعتها"
"ازاى..؟ أنا عايشة على الأمل دة"
"للأسف لو اتعملت هاتتسبب لك فى مشاكل كتيرة
وغالبا الاضرار النفسية بعدها هاتكون مدمرة...دة رأيي وممكن تستشيري غيري..."
تغمض عينيها لتحتمل وقع الذِّكري عليها و استعراض أثر الموقف عليها آنذاك...دُوار أطاح بالأحلام من قمة جبل الوهم...حلم الأنوثة المكتملة...حلم الحب...حلم الزواج...وحلم العائلة والصحبة...وقبل كل هذا حلم احترام المجتمع....لا تعرف كيف تواجه هذا العيب الخلقي ...مرضها يعتبر سُبة يتقاذفها الناس بينهم وبين بعضهم فى المواقف المتوترة...
تحايلت على هذا التشوه الخلقى عمرا أملا فى
الوصول لحل نهائي...مرضها -الذي أسمته طبيبتها تشوها
خِلقيا...وأسمته صديقتها الوحيدة التى أفضت لها بسرها
"اختلاف"- هو لعنة فى مجتمعات تقدس الأيقونات المحددة للجنس...مجتمع يباهى فيه الذكور بأدواتهم...وتفتخر فيه النساء
بأسلحتهن...ولم يفكر أحدا من الجنسين ان ما لديه من أسباب المفاخرة لم يحصله
بقوته...ولم يختره بمحض إرادته...ودهسوا دون وعى أو بوعى...المنطقة
الوسطى...
كيف تستغرب...وقد كانت دائما تلك المنطقة الوسطى تثير المخاوف...تثير القلق والتوتر....حيث الا
انتماء...حيث التمزق...فى مجتمع فُطِر فيه
الناس على الخوف من أن يكون مصيرهم فى الآخرة هو الجلوس على جبل
الأعراف بين الجنة
والنار...ويعلن شعراؤه أنه لا
منطقة وسطى بين الجنة والنار...و أحدُ لا يعرف أن قدرها فى الحياة
"أعْراف الجِنس"...تلك المنطقة الوسطى الملغومة بالعار....
شاهندة...رجل وامراة... اثنان فى واحد...مظهرها المبدئي...صوتها...شعرها...وجهها ...نَهدُها...كل
ما فيها – للوهلة الأولى- يشي بأنوثة
طبيعية وإن كانت ليست بالأنوثة الطاغية...شكلها يقارب كل فتاة تندرج تحت
بند العادية...ليست حسناء وليست دميمة أو
تميل ملامحها للخشونة....ولكنها تمتلك رجل كامل الرجولة أيضا...يقبع بجوار
الأنثي....متحفز دائما للإعلان عن نفسه....
آه ذلك الرجل القابع فيها كانت تريد ان تتنازل عنه فى مقابل تحقيق حلم الأنوثة الكاملة ... حاولت
استئصاله ...ولكن الواقع أبي إلا أن
تُكْمٍل رحلتها فى الحياة بنصفيها - بالرجل والمرأة جمبا إلى جمب....تشفق
عليها صديقتها...تعرف أن الرجل
أوالمراة ينفق/تنفق من عمره/ها سنوات عديدة لفهم نفسه/ها
فتتساءل كيف تتسق "شاهندة" مع نفسها فى ظل هذا التارجح...فى ظل
تضارب الرغبات...وتضارب
المشاعر...؟
لم تكن تتخيل أن تفكر فيما لو فشل مشروع
علاجها...لم تطرح على نفسها أسئلة بخصوص تعايشها
مع واقعها...كانت تواجه كل المواقف
الصعبة التى يضعها فيه وضعها المؤلم بالإنسحاب...تهمس لنفسها
"هانت... بس أعمل العملية"... لم يكن يؤرقها
غير الذكر القابع فيها...هو ذاك المخلوق الطفيلى الذي اجبرها على خسارة صديقاتها عندما
خشيت عليهن منه....عندما
خافت من اكتشافهمن لحقيقة
اخفائها لذكر داخل ملابسها الأنثوية...وخوفها من استغلالهن له...!
لم تنسي أبدا موقف صاحبة صالون التجميل عندما كشفت لها حقيقتها قبيل طلب مساعدتها فى
أحد الشئون النسائية...تلك
المراة الغير مكترثة...لمعت عينيها عندما أخبرتها بالأمر...اشتمت شاهندة رائحة
الرغبة تفوح من اهتمامها المفاجىء وعرضها
بان تقوم هى بنفسها بتلك المهمة...بدلا من اختيار احدى
فتيات المحل الماهرات وحددت لها موعدا فى يوم الإجازة
الأسبوعى للصالون...تساءلت فى دهشة...ترى هل هى رغبة بالفعل أم حب استطلاع لشيء من
شدة تجاهل الناس له نسوا
أنه موجود بالأصل...؟ هل هناك ثمة إثارة فى وضعها المرضي المحرج...؟ دفعها هذا السلوك لأن تخرج
من الصالون بلا عودة
ولكنها فشلت فى أن تتناسي الموقف...
لا أحد ممن
يهربون منها ويتجنبوها
يشعر بخوفها من المستقبل...لم يشعروا بحيرتها عندما تصادف شابا وسيما تتمناه زوجا وتتحطم امنيتها
فورا على صخرة واقعها...وأحد لا يتفهم انجذابها لفتاة وادراكها انه لا فائدة من مشاعر تصدر من
ذات ضائعة....تصرخ
أمام المرآة : ليتنى كنت نسيا منسيا... إنه الجهل الذي جعل من الناس تساوى بين وضعها وبين حاملى الأمراض المعدية...
اشتدت صدمتها عندما خذلتها صديقتها الوحيدة...ورفضت بعد أن ألمّت بتفاصيل وضعها أن تسهب فى التحدث إليها...تصرخ فى وجع صامت "حتى أنتِ"...وتتساءل بقلق "هل صارت تخشانى"...اللعنة على مرض يجبرها على أن تسجن نفسها بنفسها داخل أربعه جدران... تحدث صديقتها حديثا داخليا مستعتبة إياها ومتساءلة : لماذا تركتنى بعدما ألقيت إلى بطوق نجاة متمثل فى عبارتك التى
حرصت على تكرارها
.." اصبري ولا تحزنى...ولا تفكري سوى بأنكِ أنثي خارقة" ...لمعت هذه
العبارة
فى ذهنها كما تلمع الدموع على
وجنتيها...فجففت دمعها...واتجهت صوب مقبس الضوء...أضاءت الغرفة...واستدارت
لتواجه نفسها فى المرآة....ابتسمت...وهمست "نعم..من اليوم لن
انزوي...لن اتواري...ولن أكون سوى أنثي خارقة"....لمعت عينيها من
جديد مع صوت تغريد
الطيور...هو الفجر قد حل...وأبطل
قوانين الليل...

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق