الخميس، 7 فبراير 2013

عذرا فريدمان

عبد الرازق أحمد الشاعر

يوم الثلاثاء المنصرم، كتب توماس فريدمان مقالا مطولا، قارن فيه بين الهند والصين، وفتح قوسي المقارنة ليحشر مصر بن عملاقين اقتصاديين واعدين. تعجبت في البدء حين قرأت عنوان المقال، لأنني لم أجد في واقعنا البائس ثمة ما يخدع رأسا بهذا الحجم فينا؟ أوليس أهل طيبة أدري ببؤسها؟ ألم ير ذلك المخدوع في حشودنا قطاع الأمل فوق كل قضيب، وصناع الفوضي أمام كل مؤسسة؟ أولم ير كيف خيمت خفافيش الظلام فوق مياديننا لتخطف منا من كان حيا وتسيمه العذاب ضعفين في سادية بشعة وعدوانية غير مسبوقة؟ ألم ير شبابنا في طوابير الغاز والخبز والوظائف والأمل واقفين بطول التاريخ وعرض الجغرافيا دون أن تظهر بارقة أمل في نهاية الطابور تبشر بعيش مشترك أو حتى بقايا عيش محترق؟ 
قرأت المقال مستهينا بديباجته التي وضعت مصر على خريطة المستقبل مع دولتين تتعملقان بسرعة يأسنا مُتٓحَدِّين العواصم التي يحج إليها قادتنا وساستنا وسارقو أحلامنا ليل نهار. لكنني ما إن ولجت قاع مقاله، حتى وجدتني أهز رأسي كخيل عجوز يهش ذبابة بين عينيه قناعة بما يقول.
صدق فريدمان مرة حين قال عن الصين أن بها حكومة قوية ومجتمعا مدنيا ضعيفا. وصدق أخرى حين قال عن الهند أنها دولة ذات مؤسسات وأن أحزابها المدنية أقوى بكثير من حكومتها المركزية. وصدق وأصاب عين الحق وأنفه حين قال أن مصر تتمتع بحكومة ضعيفة ومجتمع مدني متهالك نظرا لما تعرضت له من قمع على مدار خمسة عقود متتالية. 
هكذا إذن، أثبت فريدمان أنه معاصر لخيبتنا وشاهد على بؤسنا. لكن ما الذي جعله يدخلنا بين القوسين إن كان يريد أن يخرجنا من بينهما صفر اليدين؟ لماذا وضعنا فريدمان في ذيل عنوان بدأه بعملاقين واعدين بينهما فاصلة؟ الجواب في رأي عملاق الرأي العالمي أن بمصر والهند والصين طاقة بشرية واعدة تجيد استخدام التكنولوجيا على تفاوت فيما بينها، وأنه إذا تم ترشيد تلك الطاقة، فسيكون لنا شأن آخر .. هكذا يقول، وهكذا نتمنى. لكن شاعرنا القديم أخبرنا منذ قديم الهزل أن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وأن رياحنا تأتي غالبا بما لا تشتهي السفن. يرى فريدمان أن ترشيد فكر الشباب وتوزيعه ديموغرافيا كفيل بوضع خريطتنا المفككة على بوصلة المرحلة المقبلة. يرى الرجل أن مصر قد تتحول إلى مارد بين عشية وصبحها بمجرد تحول الشباب غير العامل وغير المؤهل للعمل إلى طاقة فاعلة. لكنه فعل ما تفعله جل حكوماتنا المتعاقبة، إذ وضع نقطة في وسط الفهم ولم يُتم تصورٓه لمشروع نهضتنا، فتحول للحديث عن الهند وتركنا نضرب أخماس المظاهرات في أسداس الحكومات دون أن نصل إلى دستور.
والحقيقة أن كلام فريدمان يريحنا مؤقتا من أرق الخوف كحبة بنادول تسكن الوجع حتى حين. إذ لا يلبث القارئ أن يدير رأسه يمينا أو يقلب طرفه يسارا أو يفتح المذياع أو يرى بأم حزنه سكرات التلفاز حتى يدرك أنه سقط في فخ الكلمات حد الوجع. فكل سفننا القادمة من الاتحادية أو الآيبة من التحرير محطمة أشرعتها خاوية من ملح الأمل أو زيت التفاؤل. كيف نرى ما ترى أيها الفريدمان إذا كانت قوتنا التي تتحدث عنها مغيبة خلف أسوار من الكراهية والتنافر والعداء؟ كيف نجد لمصرنا موطئ قدم بين الكبار ونحن نضخ زيت الشيخوخة في عروق شبابنا كل يوم لنفرقهم أشتاتا أمما وراء شعارات بهلوانية كاذبة؟ كيف يمكن لمصرنا أن تظل حاضرة في عنوان الوجود وأبناؤها يُسحلون وتُكشف سوءاتهم على مرأى من العالم كله؟ كيف تتقدم مصر وقد تحولت إلى جارية نساوم على بيعها كل يوم، ويأتينا النخاسون من شتى البقاع ليدفعوا ثمن قيدها دون أن تردهم نخوتنا أو يردنا خجلنا؟ عذرا فريدمان، لا نستطيع أن نرى مصر بعينيك، ولا نتحمل أن نراها بعيوننا جارية بين قوسين.

-->

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق