الفاشوش في أحكام قراقوش
بقلم : وليد دياب مستشار التحكيم الدولى والاتحاد العربى لحماية حقوق الملكية الفكرية
مشكلة التاريخ أنه لا يحتفظ إلا بأسماء الطغاة والفاتحين والجزارين ومن باب الطرافة بأخبار الحمقى والمجانين والسذج - .. خذ كمثال الأمير الأيوبي قراقوش الذي اشتهر بقراراته الغريبة لدرجة جمعها في كتاب خاص بعنوان: (الفاشوش في أحكام قراقوش)
بهاء الدين قراقوش هو أحد القادة البارزين زمن صلاح الدين الأيوبي، وأحد مساعديه، وأحد الذين خاضوا الحروب ضد الصليبيين الغزاة، كما أنه قدم خدمات جليلة لمدينة القاهرة عمرانياً من خلال إقامة الأسوار والقلاع والقناطر وكان له الجهود الكبيرة في القضاء على الدولة الفاطمية الشيعية، وإعادة مصر إلى مذهب أهل السنة... ومع ذلك يرتبط اسمه ـ زوراً ـ بالظلم والقسوة والأحكام الغريبة، وتحيط به الافتراءات، وتنسج حوله النوادر والحكايات.
و لا يخلو عصرنا الحاضر من حمقى ومجانين وساسة سذج يتمتعون بنفس المواهب ولكن عن حق .. فالذي اشتهر بسذاجة تصريحاته وحماقة قراراته ولولا أنه يعمل ضمن مؤسسة ديموقراطية لرأينا عجائب وغرائب يخجل منها حتى قراقوش الفاشوش..
التاريخ ملئ بالنماذج المتعددة من الطغاة والفراعين والمستبدين الذين يستعبدون شعوبهم ويحكمونهم بالحديد والنار ولسنا بصدد بحث أباطرة وطغاة التاريخ القديم هنا , ولكن بوسعنا أن ندرك من موقعنا اليوم كيف كان من الصعب علينا في الماضي التحقق من أبعاد أزمة الدكتاتوريات بسبب اعتقادنا الخاطئ بأن في إمكان الأنظمة الإستبدادية الاستمرار في الحكم, أو بمعنى أوسع إعتقادنا الخاطئ في بقاء الأنظمة القائمة على القوة على قيد الحياة دوما , فالدولة في الديمقراطيات الليبرالية ضعيفة بطبيعتها حيث أن الإبقاء على مجال من الحريات الفردية يعني فرض قيود ثقيلة على سلطانها .
أما الأنظمة الشمولية يمينية أو يسارية فقد كانت تسعى إلى استخدام قوة الدولة للإعتداء على مجال الحريات الفردية والتحكم فيها من أجل تحقيق أهداف شتى , كزيادة قوتها العسكرية أو إرساء دعائم نظام اجتماعي تسوده المساوة أو تحقيق نمو اقتصادي سريع , بحيث يمكن تعويض الخسارة في مجال المشيئة الانسانية الفردية – الحرية الفردية - بمكاسب على صعيد الأهداف القومية إذن فالضعف الحاسم الذي يودي في النهاية بهذه الأنظمة المستبدة القوية يتمثل في المقام الأول في الافتقار إلى الشرعية فهى أزمة إذن على المستوى النظري, ذلك أن الشرعية ليست هى العدالة ولا الحق بمعناهما المطلق وإنما هى مفهوم نسبي قائم في الادراك الشخصي للناس ولا غنى لأي نظام قادر على العمل الفعال عن الاستناد إلى مبدأ الشرعية بوجه من الوجوه فليس ثمة دكتاتور يستند في حكمه إلى القوة المحضة وحدها كما يقال على سبيل المثال عن هتلر , فإن كان بوسع الطاغية أن يستند إلى القوة في الحكم في أولاده , أو في زوجته لو أنه كان أقوى من هؤلاء جسديا فالغالب ألا يكون بمقدوره التحكم في أكثر من إثنين أو ثلاثة أفراد بنفس الأسلوب, والمؤكد أنه لن يستطيع أن يحكم به أمة مكونة من ملايين الناس . وحين نقول أن دكتاتورا مثل هتلر حكم (بالقوة) فإنما نعني أن - أنصار هتلر - بما فيهم الحزب النازي والجستابو والفرماخت استطاعوا إرهاب القطاع الأكبر من أفراد الشعب جسديا, كذلك الحال في انظمتنا العربية المستبدة سواء كانت ملكية أو جمهورية .
إذن بات من الواضح أن أي نظام من الأنظمة ليس في حاجة إلى اعتراف غالبية أفراد الشعب بسلطانه حتى يضمن لنفسه البقاء فثمة العديد من الأمثلة المعاصرة لدكتاتوريات من الأقليات تمقتها شرائح عريضة من الشعب وتمكنت من البقاء في الحكم لعشرات من السنين , , فالافتقار إلى الشرعية عند الشعوب ككل لا يعني أزمة في شرعية النظام ما لم تنتقل عدوى السخط وعدم الاعتراف بالشرعية إلى الصفوة المرتبطة بالنظام خاصة الصفوة التي تحتكر أدوات القمع كالحزب الحاكم والقوات المسلحة والشرطة ورجال الثروة .
فحين نتحدث إذن عن أزمة في الشرعية داخل نظام استبدادي فإنما نعني بها أزمة في صفوف الصفوة التي يعتبر انسجامها وتضامنها شرطا أساسيا لفعالية حكم النظام
صحيح إن الأنظمة الحاكمة في بلداننا لا تعترف بمفهوم المواطنة وتنتهك حقوق
مواطنيها نهاراً جهاراً وتضع العثرات أمام الآليات الديمقراطية فإن مجتمعاتنا
هي أيضاً تتحمل الكثير من المسؤولية فيما آلت إليه أوضاعها من تراجع وبؤس
وشقاء, هذه الأوضاع المأساوية لمجتمعاتنا هي أيضاً نتاج الثقافة السياسية
السائدة فيها, التي أدت ومازالت تؤدي إلى ترسيخ وتكريس الأنظمة الاستبدادية
التسلطية وتقف حجرة عثرة أمام عملية التحول الديمقراطي وصولا ًإلى تعزيز مفهوم
المواطنة وترسيخ قيمها, إن الأنماط السلوكية والقيم الأخلاقية التي تشكل
الثقافة السياسية التي يحملها المواطن بمجملها سلبية, بالمحصلة تؤدي إلى عدم
إدراك المواطن لحقوقه.
إن شرعية أية سلطة سياسية تنبع أولاً وأخيراً من مدى التزامها واحترامها
لمبادئ وقيم المواطنة وتوفير شروطها، لأن المواطنية هي الضرورة الحتمية
للديمقراطية وقاعدتها الأساسية، لأنها تعني ضمان الحقوق القانونية والسياسية
لكافة المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاثني أو الديني أو الاجتماعي ومفهوم
المواطنة كما تشير دائرة المعارف البريطانية هي علاقة بين الفرد والدولة كما
يحددها قانون تلك الدولة متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ
عليه حقوقاً سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة، أي إن المواطنة هي
مجموعة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يكتسبها الفرد فعلياً
وقانونياً من خلال عضويته في مجتمع معين على قاعدة المساواة مع بقية أفراد
المجتمع، ويستند مفهوم المواطنة إلى ركيزتين أساسيتين هما: المساواة والحرية،
فالمواطنة تنطلق من ثنائية الحقوق والواجبات وضرورة المساواة بينهما باعتبار
المواطنة هي ركيزة الديمقراطية وهي تهدف إلى تحقيق المساواة التامة لكل أفراد
المجتمع على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم، وهذه المساواة تتجلى في أبهى صورها
من خلال فكرة سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته بغض النظر عن جنسه أو
دينه أو عرقه أو لونه، ويأتي مفهوم المواطنة نسبة إلى الوطن والانتماء إليه
ويترتب على ذلك حقوق وواجبات ولكن هذه الحقوق والواجبات ليس بمقدور أفراد
المجتمع ممارستها إلا في ظل سلطة سياسية عادلة ويتجلى ذلك سياسياً في إيجاد
دستور ديمقراطي يتضمن صون الحريات العامة ويقر بمبدأ التعددية، وقانونياً يتجلى
في مبدأ سيادة القانون واجتماعياً يتجلى في ترسيخ قيم العدالة والمساواة
واقتصادياً يتجلى في مبدأ تكافؤ الفرص وأخلاقياً يتجلى في تنمية الحس المدني
لدى أفراد المجتمع من خلال إخلاصهم لثنائية الحقوق والواجبات وتغليبهم المصلحة
العامة على المصلحة الشخصية، وبأن المصالح الخاصة لا تتحقق إلا من خلال تحقيق
المصلحة العامة وحمايتها.
إن ما نحتاج إليه هي إرادة التغير وذلك بتوفير الشروط اللازمة من خلال
احترام الحرية العامة والفردية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وبناء المؤسسات
الدستورية وهذا يعني تهيئة المناخ لتحقيق مفهوم المواطنة والاعتراف بمبادئها
وتوفير شروطها وهي الخطوة الديمقراطية الأولى والضرورية في تحريك مكامن القوى
عند الأفراد والمجتمعات.
ولا يمكننا تجاهل أن الحيرة التي نعانيها اليوم حول الحكم على المسؤولين من أهم أسبابها الأحقاد المتبادلة بين المتنافسين على السلطة وما ينتج عنها من دسائس ومؤامرات يحلو لبعضنا وصفها بأنها (الديمقراطية)! وأيضاً التهامنا نحن الشعب للشائعات بنهمٍ دون تمييزٍ بين الأخضر واليابس!
وفي وسط هذه الحيرة أجد نفسي أتساءل: هل يعاني المسؤولون عندنا اليوم من أزمة قراقوش؟ هل نحكم عليهم خطأً بالفشل والفساد والأنانية؟ هل يتم نشر الشائعات عنهم وتزوير سيرهم؟
ربما... ربما كان هذا هو الواقع... ولكن هنالك تساؤلٌ أهم لهؤلاء المسؤولين: هل سيتركون تراثاً يمكننا الرجوع إليه للحكم عليهم وإنصافهم كما نرجع لتراث قراقوش لإنصافه؟ هل ستكون لهم إنجازات تشهد لهم بجهدهم وعملهم وتدفع عنهم الشائعات؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي يحتاج لإجابة على أرض الواقع... فليس مهماً ما نقوله اليوم عن هذا المسؤول أم ذاك، تماماً كما أنه ليس مهماً ما يقوله الناس عن قراقوش... فالحقيقة الكاملة لا نقولها نحن أم هم... ولكن الحقيقة الكاملة تقولها الإنجازات، فإنجازاتهم هي التي ستحكم عليهم بحقيقتها، تلك الحقيقة التي لا تقدر أقوى الشائعات أن تطعن فيها أو تخدشها، والتي لا يمكن أن يردمها التاريخ...
0 تعليقات:
إرسال تعليق