Ads

كيف تُعرف العدالة؟ وهل يمكن تحقيقها على الارض؟ أم هي مفهوم نسبي


بقلم : وليد دياب

المتأمل في الفكر الإسلامي يجد أن المسلمين قد آمنوا بالمطلق، واعترفوا بالنسبي، وإيمانهم بالمطلق تمثل في إيمانهم بالله، فالله سبحانه وتعالى كان قبل الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وهي الجهات الأربع التي تحكم الواقع المعيش، والتي ينسب إليها؛ ولذلك نسمي هذا المتغير بالنسبي، نسبي في الزمان أو نسبي في المكان، أو نسبي في الأشخاص أو نسبي في الأحوال، والله سبحانه وتعالى هو المطلق الفرد الذي لا يحده شيء من ذلك كله. 
   فالعدل عدل في كل ذلك - أعني: هذه الأربع - والرحمة رحمة، والظلم ظلم، والقسوة قسوة، ولذلك نرى في القرآن الكريم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(1). 
    ويقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(2)، فالإيمان بالمطلق بهذا المعنى أحد أركان الإسلام، والمكون الأساسي للعقل المسلم، فهو من النموذج المعرفي الذي يواجه به المسلمُ الواقعَ ويفسره به، ويقوِّمه من خلاله. 
إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته, فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية, فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.
ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟
عقل الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه إلا بتعليم من الوحي، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها والتي يعتبر إدراكها مدخلا مهما لادراك التوحيد وعلى ضوء إدراك التوحيد من بوابة العدل، ستبنى منظومة المفاهيم والقيم وفق الرؤية الالهية التي تحقق حتما كرامة الإنسان بما يرتقي به إلى وظيفة.."إني جاعل في الأرض خليفة".
إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل، والبحث عنه، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال وآليات تحقيقه ومصاديقه، فكلما ابتعد الانسان عن السماء -إن صح التعبير- كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك.
العدالة الاجتماعية لا يُفرَّق بينها وبين العدالة في القضاء أو في السياسة أو في الفكر، والخروج عن العدالة في أي مكان أو في أي زمان أو في أي مجال يُعَدّ ظلمًا وزورًا، وهذه الحقيقة البسيطة قد أصبحت محل نظر من خلال عقائد نسبية تمسّك بها أصحابها، فرأيناهم يتخلون عن العدل من أجل القوة أو المصلحة، أو بعض المواقف الشخصية، ولا يعدون ذلك ظلمًا بل يسمونه بالواقعية، وسياسة الأمر الواقع، والمصلحة العليا... إلى آخر هذه العبارات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على التدليس والغشِّ. 
وكثيرًا ما يمثِّل عدم إدراك معنى النسبي والمطلق عائقًا لفهمنا لكثير من المواقف غير المنطقية التي تحدث يوميًّا في السياسة العالمية أو في مواقف الدول والعلاقات الدولية؛ بناء على أننا آمنا بالمطلق وجعلناه مقياسًا للحق، وأننا لا نتصور أن أحدًا من العقلاء يتلون هذا التلون العجيب من النقيض إلى النقيض بدون أي تأنيب ضمير أو مراجعة لتصرفاته، بل إنه مقتنع بما يفعل ماضٍ في ذلك. 
 ويمكن أن نفسر مواقف دول الشمال ودول الجنوب، فيما يتعلق في اتفاقية الجات، وحقوق الملكية الفكرية، واستخدامات المواد الخام، بل فيما يتعلق بمفهوم الحضارة الواحدة، ومفاهيم النهايات، نهاية التاريخ، ونهاية الإنسان، ونهاية الحضارة وهذا الوضوح في التفريق بين النسبي والمطلق ليس شائعًا عند كل أفراد العالم الغربي، أو العالم الحديث، بل إنه كذلك في أذهان القيادات ومتخذي القرار سواء في مجال السياسة أو الفكر وعند كثير من أساتذة الجامعات والمشتغلين بالإعلام، ولذلك نرى أيضا أن كثيرًا من أفراد الشعوب يشعرون بذلك التناقض بين الإيمان بالقيم المطلقة، وبين قرارات حكومتهم وقيادتهم وتصرفاتهم، ومن أجل ذلك نرى كثيرًا من مؤسسات المجتمع المدني تعترض على الحرب في العراق، وتعترض على العولمة، وتعترض على الصهيونية، ونحو ذلك.
فهم لا يتصورون أن هذا لتقديم النسبي على المطلق أو لإنكار المطلق نفسه، ومذهب النسبية منقوض من داخله حيث إن الإيمان بالنسبية المطلقة في حد ذاته يشتمل على مطلق، فلا يستطيع أحد حتى أولئك أن يتخلصوا من الإيمان بهذا المطلق، وكأنه يرغمه على الإيمان به.
فرغم السعي التاريخي للإنسان نحو تحقيق العدالة في الأرض إلا أننا ما زلنا إلى الآن لم نقم جوهرة القيم (العدالة) ولم نحققها، ولعل أبرز الأسباب في هذا القصور هو الجدل الانساني الذي ينعكس في الواقع الخارجي إلى جدليات متشابكة الأهواء والمصالح ومتناقضة القيم والغايات، وهذا الجدل أدى إلى تشويه مفهوم الكمال بعد الانحراف عن المبدأ والغاية والهدف وبالتالي انحراف آليات تحققه. لذلك كان التشديد على معرفة " من أين وفي أين 
وإلى أين"، وهي معرفة ترسم خارطة طريق كاملة للإنسان في هذه الدنيا ليحقق هدف الكمال وآليات الوصول اليه.
إن القيم غاية يتطلب تحقيقهاوقيامها قيام جوهرها أي العدالة،وهذه الجوهرة تتطلب أن تحقق في ذات الإنسان كي تصبح لها قيامة في الأرض" أقم العدل في نفسك يقوم العدل في أرضك"، فالله لا يغير ما في القوم إلا إذا تغير ما في أنفسهم.
وأخيرًا فإن هذا المفهوم نسبي لأن العدالة لن تتحقق بالكامل، إلا في حياة مستقبلية أخرى: حيث النفوس، وقد حازت على ما تستحقه من ثواب أو عقاب، تعود لتتجسد من جديد، ناسية ذكرى حياتها الماضية.

0 تعليقات:

إرسال تعليق