عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
قبل أن تداعب شوارعٓنا نسماتُ الربيع الحالمة بعقدين، عرفت شوارع ليبيريا صيحاتِنا الحرة، وزأر أحرارها في ميادينها الربيعية جدا "يسقط .. يسقط النظام". وقطعا لم يكن الرجال هناك يدافعون عن الفوضى بهتافاتهم الصاخبة، لكنهم كانوا يطالبون بسقوط ديكتاتور البلاد صامويل دو الذي ذاق الليبيريون على يديه ذل الحاجة والمرض واليأس. وكما أثمرت حناجرنا لوز الحرية هنا، قطف المجاهرون بسخطهم ثمر الحرية هناك. وذات صباح لا ينسى تنفس المواطنون هناك عبير الحرية بعد حرب أهلية شرسة حبس فيها التاريخ أنفاسه وهلك فيها الحرث والنسل.
وكان شارلز تايلور على رأس المدافعين عن الحرية هناك، فلطالما وقف الرجل على منصات التمرد وقاد بصوته الجهوري جموع المحتشدين نحو قصر الرئاسة، لهذا لم تعرف شوارع البلاد لافتات منافسة، ولم يجد أمراء الحرب بدا من مبايعته. وذهب صامويل وجاء تايلور لكن شيئا لم يتغير في خارطة الفقر، وشعر الليبيريون المتنقلون كبدو رحل من قهر إلى قهر بالغبن بعد أن اضطروا إلى مطاردة الكلاب الضالة ليملأوا صحائف بطونهم الفارغة.
ونزل الليبيريون الباحثون عن أمل في ميادين اليأس يهتفون: "لقد قتل أبي، وقتل أمي، لذلك انتخبته."
وعاد أمراء الحرب إلى الشوارع تارة أخرى يطاردون رأس النظام. ولأنه لم يكن هناك أي نظام في بلاد تعمها الفوضى من كل صقع، كان الليبيريون حتما يقصدون تايلور الذي قاد حربهم ذات ربيع ضد نظام آخر أقل دموية وإن كان أكثر فسادا. وظل تايلور يذكرهم بأنه إما أن يكون أو تكون الفوضى. واختار الليبيريون الفوضى، لتضج الشوارع والميادين بثورة أخرى ضد نظام فاسد لن يكون الأخير في تاريخ ليبيريا.
وفي مطلع 2003، اضطر تايلور الثائر إلى التخاذل عن مغتصباته أمام زحف الأقدام العارية نحو قصره الرئاسي، ووقف يخطب في الناس مبررا قسوته، وكيف أنه تنازل بمحض إرادته عن حقه في السلطة تجنبا لإراقة الدماء. لكن المثقفين من الليبيريين استطاعوا أن يترجموا ما نشرته الصحف الأجنبية، وعلم الناس أن الأمريكيين هم الذين أجبروا ثائر الشطرنج على التحرك من موقعه فوق خارطة التاريخ.
في ليبيريا طارد الناس لحوم الكلاب وسرقوا المحار ليبحثوا بين قشرتيه عن بديل لرخاء موعود وعدالة مزعومة، لكن حمل الربيع هناك كان كاذبا. وبعد سيل من الدماء لم يتوقف على مدار أربع سنوات من القحط وأكل اليباس، أدرك الليبيريون أن الثورة على النظام لا تعني أبدا السكوت على ما يقترفه المتمردون من ظلم، وأن الاستقرار الحق لا تفرضه الطغمة الحاكمة، بل تفرضه الفئة المستباحة على مر الأربِعة والمواسم، وأن الثورات على الأنظمة المستبدة تستبدلهم عادة بقادة أشد استبدادا وأكثر قمعا، وعلم الليبيريون أن البؤس هو الباعث الحقيقي على التمرد. يقول أرسطو: "الفقر هو الأب الشرعي للثورة والجريمة."
0 تعليقات:
إرسال تعليق