أديب مصري مقيم بالإمارات
فور إعلان الاستقلال، قررت كل ولاية من الولايات المتحدة البحث عن دستور يناسبها. وكغيرها من الولايات، حشدت بنسلفانيا خيرة رؤوسها وصفوة مشرعيها لعمل دستور ينال رضا الشعب ويرعى مصالحه. وبدأت المشاورات تزداد سخونة في قاعة المؤتمرات حتى شعر المواطنون بلفحها. وبعد مئة يوم من الجلبة، لم يخرج المؤتمرون ببند متفق عليه ليقدموه لشعب وضع بيض الأماني في سلة صفوته.
ويومها أحس بنيامين فرانكلين بالخطر، فتوجه من فوره إلى منصة الخلاف، وألقى على الحضور كلمة مقتضبة ليشعر الحشد بخطورة الموقف. قال فرانكلين حانقا: "أيها السادة، تعلمون جميعا أننا كنا نعيش في فوضى عارمة، إلا أن الأمور كانت مستقرة. ألا فلتتوقفوا عن حواراتكم العقيمة، وإلا شعر الناس أنهم أفضل بدونكم."
نعم، مصر أفضل بلا دساتير وبلا ياقات بيضاء وحناجر أفعوانية لا تتمدد إلا بالسم ولا تنفث إلا مرضا. مصر أفضل بلا دساتير وبلا مقاعد تجثم فوق صدر البلاد الخارجة للتو من رحم الذل والعبودية ليلا آخر. والمصريون أفضل بلا قيادات لا تقود إلا للهلكة ولا تؤذن إلا بأفجر كاذبة شعاعها لاهب وضوؤها سراب. والقيم بخير طالما لم تستبد بها الدساتير المنحوتة بالمخالب والأظلاف في قلب وطن لا يحيا إلا بالحب ولا يلتئم إلا بالتسامح.
وكل الدساتير الخارجة من عناية فقهاء الفتنة المغترين بحروفهم لا تنشر أمنا ولا سكينة في ربوع بلاد حكمتها العادات وساستها الأعراف مذ أشرقت شمس الحضارة على ترابها. لن تعلمنا الدساتير عيادة المرضى ومواساة المكروبين والذود عن الضعفاء والعطف على الأرامل واليتامى والمساكين. لن تنشر مواد دستوركم الرحمة في قلوبنا أيها المفتونون بكاميراتكم وفضائياتكم الملعونة. ولن تحمينا من سيوف الكراهية المنصوبة في كل زقاق وعند كل ناصية.
تحتاج مصر إلى بساط أخضر يمتد من أقصى يمين الوطن إلى أقصى يساره، ويشمل الاتحادية وميدان التحرير وحقول القمح وغابات الزيتون. تحتاج مصر إلى ميدان يجتمع فيه إخوة كرامازوف على أي شيء إلا الخلاف، وعلى أي مادة إلا الغدر. تحتاج مصر أن تنسى أخاديد آلامها النازفة في الميادين وصهيل زعماء الفتنة فوق منابر الزيف. تحتاج مصر أن ترتاح وإن قليلا بين يدي فلاح منتج أو عامل ماهر أو طبيب يلملم أحشاءها الموزعة فوق ميادين الخلاف.
لم تجمعنا الدساتير يوما أيها الخارجون على سلطة العشق، ولم توحد راياتنا بنود ولا مواد، ولم يعرف آباؤنا عن الدستور أكثر مما عرفته الداية عن ملامح الجنين. لكنهم كانوا بخير وإن شح الزاد. كان آباؤنا بوعي لأنهم اقتسموا النسمة وظل الشجرة واللقمة اليابسة وشربة الماء. كان دستورهم العرف وكانت الأخلاق نائبهم العام وكان الله بينهم يشد على أياديهم ويبارك وحدتهم.
ماذا تفعل بنسلفانيا بمواد الدستور؟ وكيف يجمع دستورها جنبي وطن شقه الخلاف نصفين كلاهما نازف؟ ماذا يفعل البسطاء جدا الذين لا يطلبون من الحياة إلا بيتا من صفيح ولقمة من قديد وأمنا من خوف؟ أيها المغرورون بموادكم والمتقاتلون على حروفها، ليست بنسلفانيا في حاجة لدستوركم المكتوب بحبر الدم والمغزول بزيت الفتنة. ليتكم تحملوا موادكم وترحلوا، فشعب بنسلفانيا ليس في حاجة إليكم.
0 تعليقات:
إرسال تعليق