عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
فوجئ الرسام والشاعر الإنجليزي إدوارد لير أثناء تجواله بالجنوب الإيطالي، باندلاع شرارة الثورة هناك، واحتدام المعارك بين الثوار والجند، ففر الرجل بلحيته الكثة وما تبقى في صلعته من شعيرات نافره، وعاد إلى فندق إقامته. وهناك، وجد الحارس ملقى على كرسيه كجورب قديم وقد ذهب السكر بما كان في جمجمته الضخمة من وعي.
هز لير بدن المخمور، فاستفاق قليلا، وأمال رقبته يمينا، ليفتح عينيه بين يدي نزيل فندقه الذي طالبه نافد الصبر بمفتاح غرفته. انتصب الرجل في كرسيه كمن لدغته عقرباء شمطاء، وحدق ذاهلا في عيني لير، ثم لوى عنقه كي تخرج الكلمات المحشورة في رقبته المكتنزة مستقيمة قدر الإمكان، وصاح محتقنا: "اسمع يا هذا، لا مكان في هذه البلاد للمزيد من المفاتيح أو الهويات أو الملوك أو القوانين أو القضاة أو ما شابه بعد اليوم. لم يعد في بلادنا إلا الحب والحرية والصداقة والدستور."
يومها كانت الثورة قد نشبت أظفارها في العديد من المدن الأوروبية وامتلأت شوارع القارة العجوز بنفث الربيع الثوري ونفخه، وكان الثوريون يملأون الساحات والميادين بهتافاتهم اللاهبة: "عيش .. حرية .. عدالة إجتماعية." إلا أن الرجل المنتشي بعروقه المنتفخة ورائحة الكحول المتطايرة من فمه لم ير من ربيع الثورات المتأججة إلا فوضى خلاقة تفسح الطريق نحو علاقات مفتوحة بلا ضابط ولا حسيب.
في بلاد البواب الضخم، اندلعت ثورة على الفساد والظلم والقمع والاستبداد، لكنه ظل قابعا في كرسيه هناك، ينتظر المخلصين القادمين من كل فج عميق لينتهوا من مشاعر الثورة المقدسة من تبرك بالميادين وطواف حول أضرحة الشهداء، ليعودوا بخرائطهم التفصيلية لحفر تضاريس الوطن الجديد في وجه القارة التي تغضن جبينها وشاب ذيلها في ظل القهر زمنا، لكنهم تركوه للانتظار الممض والكأس الفارغة.
في إيطاليا إبان الثورة، لم يكن ثمة مفاتيح ولا هويات. فقد تخلصت البلاد بقدرة غاشم من القوانين والقضاة، فور تخلصها من الملك والحاشية. صارت بلادا يحكمها الهوي وتتحكم فيها الميول والنزوات. في إيطاليا الخارجة للتو من ساحة الغياب إلى ساحة الغيبوبة، لم يعد ثمة مخرج أو أسهم معقوفة تدل على طريق آمن لأن القادمين من أقاصي القنوط نسوا خرائطهم الوطنية في جيوب الثوار الذين دفعوا دماءهم نقدا عند محطات الكرامة.
في إيطاليا، لم يعد ثمة خيار بين بديل وبديل، أو بين فصيل وفصيل، فالكل متساو في الغباء والأنانية والركض خلف الشعارات والشارات. لم يعد في إيطاليا الخارجة للتو من محبسها الاحتياطي إلى ساحات التيه ثمة قانون بعد أن صارت القوانين نهبا لعصابات قضائية منظمة ومحاكمات هزلية مفبركة وأحكام حزبية انتقائية. لم يعد في إيطاليا المنتصرة على ملوكها مطابع أميرية أو سجلات مدنية تطبع هوية واحدة أو تحمل الشعار نفسه. صارت إيطاليا المنقسمة على ثوارها أشبه بحلبة رقص يتلوى فيها كل ثائر على إيقاع عزفه المنفرد. لم يعد في إيطاليا الغارقة حتى أذنيها في لجة الجدل البيزنطي إلا دستور حتما لن يعمل به أحد، ولن يمتثل له أحد، لأن إيطاليا الثورية جدا لا تؤمن بالدستور ولا تحنى رأسها إلا للنزوات السياسية والهوى الحزبي. أيتها الثورة، كم من الجرائم ترتكب باسمك.
0 تعليقات:
إرسال تعليق