Ads

طيور الظلام تنعق في عصر السماوات المفتوحة


دكتور عادل عامر

إن حملة التضييق على وسائل الإعلام العربية والإسلامية جزء لا يتجزأ من حرب الأفكار التي يشنها أرباب العولمة علينا، فهم لا يكتفون بالحجر على ما تبثه وسائل إعلامنا بل "يحاولون جاهدين إعادة بناء الأديان والثقافات. وهم يحصرون هذه المهمة بالدين الإسلامي والثقافة الإسلامية وينشدون صوغ إسلام على مقاسهم يتقبل قيمهم وتوجهاتهم. فلم يعد حتى نظام القيم شأناً خاصة في عصر عولمتهم وكذلك الثقافة لم تعد شأناً محلياً تراكمياً تختاره الأمم والشعوب وتنتجه بقدر ما غدت القيم والثقافات خاضعة لاختيارات قوى الخارج ولعبة مصالحها ودخلت في سلم أولوياتها. وهي اختيارات مغلفة تحت عنوان الدفاع عن القيم المدنية والديمقراطية وتقاس بمدى اتفاقها مع اسلوب الحياة الغربية." إن حرب الأفكار هذه لا تقبل بأقل من اجتثاث كل وسيلة تسير في اتجاه معاكس لما يُراد فرضه غربياً أو بالأحرى إلغاء الآخر إعلامياً. وقد شاهدنا كيف أن الأمريكيين لم يسمحوا لأي وسيلة إعلام عربية لتغطية اجتياحهم للفلوجة. إنهم باختصار لا يريدون سماع وجهة نظرنا وأصواتنا بل يبتغون فقط أن نسمع آراءهم ووجهات نظرهم وتبني تقاليدهم وقيمهم كما لو كنا غير جديرين بالتعبير عن آرائنا وأفكارنا ونشر مفاهيمنا وقيمنا
كانت المواصي عيناً خضراء ترنو دائماً إلى السماء ، كانت سلة طعام سكان المدينة، خصوصاً بعد انقضاء فصل الشتاء تأتي طيور السمان متعبةً مجهدةً فتستقبلها شباك الصياديين لتجد طريقها في اليوم التالي إلي الأسواق داخل أقفاصٍ خاصة. كانت طيور السمّن " الفر " حلماً صيفياً لذيذاً، يمتزج دائماً بالملوخية الخضراء، مكوناً وجبةً شهيةً ينتظرها الإنسان كل صيف. و أشجار النخيل تكاد تعانق السماء مكونة لوحة جميلة تمتزج فيها ألوان بلح عيوشة ، بالبلح الحياني ، تمتد جذور النخيل في الأرض ، فلا تجد كثير عناء في الحصول على بغيتها من الماء ، أما الخضار فحدث ولا حرج، فالماء يقبع على بعد سنتيمترات، يتفجر عيوناً أو آباراً ارتوازية تمنح الحياة والخضرة للمكان،  ينعق غراب من الشرق ، و يتكاثر البوم والغربان ، فيندفع الناس غرباً تاركين منازلهم ، ليتحول هدوء المواصي إلى حركة مفعمة بالصمت، كان صمتاً ممزوجاً برهبة مرعبة ، حتى وشوشات البحر ، اكتسبت  لحناً غريباً ، لم تعد تلك الوشوشة الحنون ، أصبحت كأنها تود هي الأخرى أن تفر من شيء يلاحقها ، يقمع رغبة الحياة فيها ، الناس يتماوجون هنا وهناك والشائعات تلاحقهم كوابيس مزعجة .. يفرون إلى الجنوب ، فتعترضهم الإشاعة  .. إنهم يذبحون كل من يقابلونه .. ترتد الموجات البشرية إلى الشمال.. تعترضها إشاعة أخرى، أنشبت الإشاعات مخالبها في عقول الناس ونفوسهم، الطوفان البشري المرعوب يعيش حالة من الارتباك لا عهد لهم بها ، تلاحق الكبار منهم صورة ما جرى حين جاءت الغربان من الشرق و الغرب ، و حين قذف البحر من أحشائه رجالاً شكلهم غريب ، عيونهم زرقاء ، كأنها استلبت زرقتها من السماء الصافية ، كان الناس يحلمون و يحلمون .. سنلاحق الغربان من جميع الجهات ، سنشرق و نشمل ، سنفعل و نفعل ، و تمتلئ السماء بالغربان و البوم ، لتقذف بهم بيوتهم إلى المواصي ، حيث لا طعام سوى الماء و الخضار ، كان الموسم موسم الخيار ، ولا بد من عمل شيء أي شيء ؛ فكر البعض بالتسلل إلى المعسكر المجاور لجلب الأطعمة ، و فكر آخرون بالهرب جنوباً إلى مصر ، و لكن الصحراء و العطش ، سيناء يا سيناء ، يا ذلك المجهول الذي يفغر فاه غولاً  يأكل كل من يضعف من البشر ، و الإذاعة تنعق ، أصبحت غراباً يشيع أنفاس الهزيمة في الجو ، حطت الغربان رحالها على ضفاف قناة السويس ، يا إلهي هكذا يتحطم الحلم ، كأساً من الزجاج كان ، سقط من يد طفل يلهو به ليتناثر أشلاء زجاجية هنا وهناك . من العقول أختار الأنغلاق والتقهقر إلى الوراء وأعلن حربا شعواء على كل مظاهر الحداثة التي تكتنف الحياة المعاصرة ويتمظهر بأشكال ارجوزية أضحت مثار سخرية المواطنين وقد زاده صلفا وغرورا تشبيه حاله بالّمخلص وأعداءه بالجاهلية. هذا العقل المتكلس يكمن الخلل فيه لتقديسه للنصوص الفقهية ويعاني من الفصام الاجتماعي، له خطاب عاطفي غث لا يسمن ولا يغني من جوع، يدغدغ مشاعر الناس ولا يطرح أبدا حلولا منطقية أو علمية تتعلق بحياة الإنسان ويقود حرب ضد المجتمع وكل من يخالفه الرأي وهو أيضا يعاني من النرجسية وإنجازاته لا تتجاوز حدود الذات والغرائز، هذه العقلية الهلامية يصعب ضبطها تحت المجهر ومموه بعناية، بينما تجلس القيادات في الغرب تحت حماية مركزة من المؤسسات ألامبريالية الصهيونية تقوم القواعد المتشنجة بهدم وتفتيت الجبهة الداخلية للدول العربية بضربها لاقتصاديات تلك الدول وزرعها للفتن بين الطوائف أو بين التيارات الإسلامية نفسها ويحيطون أنفسهم دائما بأجواء مرعبة وذلك لوسائل التعبير الغريبة التي يتعاطونها والتي تتراوح بين الراجمات في أفغانستان إلى القنابل في مصر إلى الساطور في الجزائر إلى الكذب الضار في باقي الدول العربية. وأكثر ما يميزها ويربطها بالدوائر الاستعمارية المشبوهة، هو هذا الأسلوب الحربائي المتلون والتبريري الذي يقود إلى قتل النفس التي حرمها الله، وهو أسلوب فيه كثير من ملامح الفلسفة البراغماتية الأمريكية وأيضا يظهر جليا في تعاطيهم مع أدوات الحضارة المعاصرة، تجد القيادات تمجدها وتقتنيها تحت شعار(سبحان الذي سخر لنا هذا) بينما القواعد تعيش حياة اقرب إلى حياة الحيوانات في الكهوف والأقبية، ولا يسعنا إلا أن نستشهد بآيات من الذكر الحكيم لتوجز لنا هذه الحالة(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) المشكلة هنا ليست في أدوات العصر وإنما في القائمين على تشغيل تلك القنوات وفي وجوه النجوم الكرتونية التي غاب عن أصحابها أنهم محملون برسالة، وأن لهم دورًا خطيرًا في إنعاش الوعي وتحفيزه لا في تضليله وتعميته، حد أنني أكاد أزعم أن التدقيق في اختيار مذيع أو مقدم للبرامج ينبغي أن يزيد على التدقيق في اختيار وزير عدة مرات نظرًا لجسامة المسئولية. تدقيق يضع المتقدم لشغل هذا الموقع في حكم المحال إذ عليه آنذاك أن يمر باختبارات معقدة تبدأ من الوقوف على مدى تحصيله العلمي ومستواه، مرورًا بثقافته العامة التي ينبغي أن تلم بكل مجالات المعرفة وهو ما لا يتوفر إلا في قلة نادرة، فاختبار ذكائه وقدرته على حسن التصرف، فالتأكَّد من أنه يحمل لعصره وبنيه كل هواجس الرفعة وأحلام التقدم عبر معرفة يقينية واثقة. مثل كل الناس كنت أتابع مختلف القنوات الفضائية العربية بسبب تطورات الأحداث التي شغلتنا الأيام الماضية، ومن تلك المشاهدة خرجت بالقاعدة العامة التي تحرك تلك القنوات: تسابق خلف أتفه الأحداث للاستحواذ على ترتيب «الأول» في تغطية الحدث وليس يعني كيف كانت تلك التغطية. اهتاج بلهاء المقاهي وتوجهوا إلى السفارة تشعلهم الجماعة الثورية التي ينتمي إليها المهرب وكادت الأمور تنتهي بكارثة تعكر صفو علاقات حميمة وتاريخية بين دولتين كبريين، وبين شعبين تربطهما أواصر النسب والدم، ذلك أن مقدمي البرامج في مختلف الفضائيات راحوا يلهثون خلف مذيعة الجزيرة التي سبقتهم، ويتفننون في إبداء مشاعر الغضب والتعاطف مع الكرامة الموجوعة.. «الحقيقة». «الطبعة الأولى»...»العاشرة مساءً».. ميتافيزيقا الفضاء، وكأن فوق كل حدث غمامة من الجهل تقي من قيظ المعرفة.. يبدو المذيع أو المذيعة أنيقا ووسيما إلى أن يبدأ في الكلام فتتحرك السحابة فوق رأسه.. وأتساءل الآن: كيف وضع هؤلاء في موضع مسئولية خطيرة في تحريك مشاعر العامة دون أن يتوقف أحدهم لحظة يفكر فيما يجوز أو لا يليق؟ فهنا تلعب ثقافة المذيع دورها الحاسم في أداء الدور بشرف، وأجزم أن أصحاب تلك البرامج هم ممن لم تصبهم جرثومة الوعي أو الثقافة.


--
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
-->

0 تعليقات:

إرسال تعليق