في مجتمع يحكمه العرف، وتستشري فيه حمى الفضيلة، وتكتنفه هستيريا الشرف، تُعرف المرأة بأساورها حية وميتة. ولا تخرج البكر من بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها أو إلى القبر. وتكفي إشارة واحدة من إبهام الزعيم، ليتراكض شباب القبيلة في ماراثون هستيري بحثا عن هدف ضعيف لا حول له ولا قضاء، لينفذوا أحكاما ما أنزل الله ولا القانون بها من سلطان. وهناك في الطرف القصي من الوعي .. في الباكستان .. تحبس المرأة أو تهان.
ذات تهور، ساعدت أمبرين صديقتها سيما على الفرار مع شاب رفضه والداها، لكن الهاربَين لم يعودا ليفكا وثاق أمبرين أو ليصبا سطلا من الماء فوق جسدها النحيل الذي أكلته نيران القبيلة حتى شبعت. وفي سيارة لا تحمل لوحات معدنية، ظلت أمبرين تتلوى في قيودها حتى أي قطرة من دهنها دون أن يتبرع أحد من "الشرفاء" بإلقاء غطاء ليستر جسدها المتفحم.
في إسلام أباد، تآمر ثلاثة عشر رجلا من "حكماء القبيلة" على خمسة عشر ربيعا، وأصدر كبيرهم الذي علمهم الحمق فتوى غير شرعية، بحرق أمبرين حتى الموت "لتكون عبرة لبنات جنسها" إن سولت لهن أنفسهن القفز فوق حدود العرف. وبدأت الطقوس بالخطف، ثم الحقن، فالسحل، فالحرق، لتنتهي بدخان أسود كثيف. وحول معصمي الفتاة التفت قيود الذهب لتؤكد لحاملي الكاميرات أن الباكستان مجتمع ذكوري بامتياز، وأن المرأة التي لا تستطيع أن تخفي زينتها حية، لن تستطيع أن تخفيها وهي هيكل محترق داخل سيارة بلا لوحات.
ليست جريمة شرف تلك التي ذهبت ضحيتها أمبرين، وإنما هي جريمة ضد الشرف، وضد الأديان، وضد الإنسانية. ذهبت الفتاة ضحية مجتمع همجي وهي لم تخطو فوق عتبة الخامسة عشر. وحدها واجهت عنف القبيلة وغباءها وتسلطها، ووحدها احترقت بنيران التخلف والبداوة والهمجية. لكن رائحة الموت هناك، أزكمت أنوف الأحرار في كافة الخرائط، وأساءت إلى عقيدة هي من قوانين "حكماء القبائل" براء.
"ابنتي بريئة .. إنها مجرد طفلة في الصف الثامن،" يقول ساردار رياسات وهو لا يملك دموعه. هي البربرية إذن حسب توصيف والد الفتاة، وهو عمل ليس إسلاميا ولا إنسانيا حسب توصيف نواز شريف رئيس وزراء الباكستان. لكن أم الفتاة التي التزمت الصمت المريب حتى السحابة الأخيرة، لم تبال بالأصفاد التي التفت حول معصميها وهي تقاد إلى مخفر الشرطة مع الجناة، وهو أمر أثار زوبعة من التكهنات، لا سيما وأنها كانت تعلم مسبقا بفرمان "حكماء القبيلة".
حكاية أمبرين ليست فريدة من نوعها ولا غريبة على الوسط البنجابي الذين يظلم المرأة حية وميتة، فقد لاقت أكثر من ألف ومئة فتاة حتفها في عام واحد لمجرد أنهن تمردن على العرف الذي سنه رجال القبائل التافهون. الغريب أن أغلب جرائم الشرف لا تنفذ في الباكستان إلا على النساء وكأنهن يمارسن البغاء مع الهواء. والأغرب من ذلك، أن يحتكم الباكستانيون في أمورهم إلى حفنة من الأغبياء الذين لا يستندون في حيثياتهم إلى أي شريعة أو دين أو منطق.
في فبراير الماضي، نالت شارمين شينوي جائزة الأوسكار عن فيلمها التسجيلي "فتاة في النهر" والذي يتحدث عن "صابحة" ذات الثمانية عشر ربيعا، والتي ألقيت في النهر بعد أن شد أهلها الوثاق حول جسدها النحيل، وخرجت من حضرة الموت حية بمعجزة لا زال الباكستانيون يتداولونها. فهل يحجز مخرجو المشرق الغبي جوائز الأوسكار لعشر سنوات قادمة حتى يتوقف قانون القبائل عن دهس رقاب الصغيرات، أم يصبح القانون الجنائي أكثر عدلا، فيحتكم إليه المتخاصمون بدلا من الجلوس على مصاطب الأحكام العرفية؟
"لابد وأن يمثل الجناة أمام المحكمة فورا، فمثل هذه التصرفات أمر غير مقبول. إنها ليست جريمة شرف، ولكنها جريمة قتل،" صدق نواز شريف، لكن ألم يخبر أحد الرجل أن قانونه الخصي هو الذي ألجأ المتخاصمين إلى محاكم العرف، وأن عجز التشريعات الجنائية هو الذي أدخل العباد في منجم العنف والهمجية، وأن قضاته المفسدين هم المسؤولون عن بقاء أصحاب الأعراف الفاسدة خارج القضبان؟ ألا يعلم نواز أن محاكمه لا تضرب على يد ظالم، ولا تعيد لمهضوم حقا؟ ألا يعرف الجالس فوق صفيح البداوة الساخن أن وقوف سافكي دماء أمبرين أمام محاكم الإرهاب جرم في ذاته يستحق الإدانة؟
تحتاج المجتمعات التي يحكمها العرف إلى قوانين عادلة، وإلى قضاة لا يخشون في الحق لومة "حكيم"، وإلى وعي يمكن المواطنين الشرفاء من التمييز بين جرائم الشرف وجرائم القتل. احترقت فتاة البنجاب لتصبح مجرد رقم في سجل حافل بالانتهاكات ضد المرأة في مشرقنا الحزين، ولن تكون عظامها المتفحمة آخر إدانة يسجلها التاريخ ضد "حكمائنا" الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فيفسدون في الأرض، والله لا يحب الفساد.
عبد الرازق أحمد الشاعر
ذات تهور، ساعدت أمبرين صديقتها سيما على الفرار مع شاب رفضه والداها، لكن الهاربَين لم يعودا ليفكا وثاق أمبرين أو ليصبا سطلا من الماء فوق جسدها النحيل الذي أكلته نيران القبيلة حتى شبعت. وفي سيارة لا تحمل لوحات معدنية، ظلت أمبرين تتلوى في قيودها حتى أي قطرة من دهنها دون أن يتبرع أحد من "الشرفاء" بإلقاء غطاء ليستر جسدها المتفحم.
في إسلام أباد، تآمر ثلاثة عشر رجلا من "حكماء القبيلة" على خمسة عشر ربيعا، وأصدر كبيرهم الذي علمهم الحمق فتوى غير شرعية، بحرق أمبرين حتى الموت "لتكون عبرة لبنات جنسها" إن سولت لهن أنفسهن القفز فوق حدود العرف. وبدأت الطقوس بالخطف، ثم الحقن، فالسحل، فالحرق، لتنتهي بدخان أسود كثيف. وحول معصمي الفتاة التفت قيود الذهب لتؤكد لحاملي الكاميرات أن الباكستان مجتمع ذكوري بامتياز، وأن المرأة التي لا تستطيع أن تخفي زينتها حية، لن تستطيع أن تخفيها وهي هيكل محترق داخل سيارة بلا لوحات.
ليست جريمة شرف تلك التي ذهبت ضحيتها أمبرين، وإنما هي جريمة ضد الشرف، وضد الأديان، وضد الإنسانية. ذهبت الفتاة ضحية مجتمع همجي وهي لم تخطو فوق عتبة الخامسة عشر. وحدها واجهت عنف القبيلة وغباءها وتسلطها، ووحدها احترقت بنيران التخلف والبداوة والهمجية. لكن رائحة الموت هناك، أزكمت أنوف الأحرار في كافة الخرائط، وأساءت إلى عقيدة هي من قوانين "حكماء القبائل" براء.
"ابنتي بريئة .. إنها مجرد طفلة في الصف الثامن،" يقول ساردار رياسات وهو لا يملك دموعه. هي البربرية إذن حسب توصيف والد الفتاة، وهو عمل ليس إسلاميا ولا إنسانيا حسب توصيف نواز شريف رئيس وزراء الباكستان. لكن أم الفتاة التي التزمت الصمت المريب حتى السحابة الأخيرة، لم تبال بالأصفاد التي التفت حول معصميها وهي تقاد إلى مخفر الشرطة مع الجناة، وهو أمر أثار زوبعة من التكهنات، لا سيما وأنها كانت تعلم مسبقا بفرمان "حكماء القبيلة".
حكاية أمبرين ليست فريدة من نوعها ولا غريبة على الوسط البنجابي الذين يظلم المرأة حية وميتة، فقد لاقت أكثر من ألف ومئة فتاة حتفها في عام واحد لمجرد أنهن تمردن على العرف الذي سنه رجال القبائل التافهون. الغريب أن أغلب جرائم الشرف لا تنفذ في الباكستان إلا على النساء وكأنهن يمارسن البغاء مع الهواء. والأغرب من ذلك، أن يحتكم الباكستانيون في أمورهم إلى حفنة من الأغبياء الذين لا يستندون في حيثياتهم إلى أي شريعة أو دين أو منطق.
في فبراير الماضي، نالت شارمين شينوي جائزة الأوسكار عن فيلمها التسجيلي "فتاة في النهر" والذي يتحدث عن "صابحة" ذات الثمانية عشر ربيعا، والتي ألقيت في النهر بعد أن شد أهلها الوثاق حول جسدها النحيل، وخرجت من حضرة الموت حية بمعجزة لا زال الباكستانيون يتداولونها. فهل يحجز مخرجو المشرق الغبي جوائز الأوسكار لعشر سنوات قادمة حتى يتوقف قانون القبائل عن دهس رقاب الصغيرات، أم يصبح القانون الجنائي أكثر عدلا، فيحتكم إليه المتخاصمون بدلا من الجلوس على مصاطب الأحكام العرفية؟
"لابد وأن يمثل الجناة أمام المحكمة فورا، فمثل هذه التصرفات أمر غير مقبول. إنها ليست جريمة شرف، ولكنها جريمة قتل،" صدق نواز شريف، لكن ألم يخبر أحد الرجل أن قانونه الخصي هو الذي ألجأ المتخاصمين إلى محاكم العرف، وأن عجز التشريعات الجنائية هو الذي أدخل العباد في منجم العنف والهمجية، وأن قضاته المفسدين هم المسؤولون عن بقاء أصحاب الأعراف الفاسدة خارج القضبان؟ ألا يعلم نواز أن محاكمه لا تضرب على يد ظالم، ولا تعيد لمهضوم حقا؟ ألا يعرف الجالس فوق صفيح البداوة الساخن أن وقوف سافكي دماء أمبرين أمام محاكم الإرهاب جرم في ذاته يستحق الإدانة؟
تحتاج المجتمعات التي يحكمها العرف إلى قوانين عادلة، وإلى قضاة لا يخشون في الحق لومة "حكيم"، وإلى وعي يمكن المواطنين الشرفاء من التمييز بين جرائم الشرف وجرائم القتل. احترقت فتاة البنجاب لتصبح مجرد رقم في سجل حافل بالانتهاكات ضد المرأة في مشرقنا الحزين، ولن تكون عظامها المتفحمة آخر إدانة يسجلها التاريخ ضد "حكمائنا" الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فيفسدون في الأرض، والله لا يحب الفساد.
عبد الرازق أحمد الشاعر