الدكتور عادل عامر
إن المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر، في ظل ما ارتكب من جرائم جسيمة في حق أبناء الشعب المصري، كانت تستوجب تبني آليات متطورة لتقصي ومعرفة الحقيقة، والملاحقة والعقاب لتحقيق القصاص العادل لمصابي وشهداء الثورة من خلال تطبيق آليات العدالة الانتقالية. وإن إصدار تشريع جامع للعدالة الانتقالية كان من الممكن أن يجنب البلاد حالة الانقسام التي حاقت بها وبالمجتمع المصري، وحالة الاستقطاب الحاد الذي ضرب أطنابه في ظل إرادة سياسية حقيقية وتوافق مجتمعي هادف. لقد أثبتت تجارب الدول السابقة في مجال العدالة الانتقالية أنه لا يمكن نجاح تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية إلا من خلال إطار قانوني شامل ومنضبط ومحل توافق مجتمعي، يمكن من خلاله تحقيق أهداف العدالة الانتقالية. وآليات تطبيقها التي تتسم بالتعدد والتمايز، ومن ثم يجب تطبيقها في إطار قانوني يضمن تجانسها وتحقيق أهدافها على النحو الأمثل. وهذا الإطار يستلزم إصدار تشريع وطني متكامل يحدد آليات العدالة الانتقالية المزمع تطبيقها، ويبين كيفية تحقيق أهدافها، وضوابطها الضرورية، كما يوضح اختصاصات اللجان والهيئات القضائية منها وغير القضائية القائمة عليها، بما يضفى على الإجراءات صفة الشرعية، ويجنب البلاد التحكم والعشوائية في مراحل العدالة الانتقالية.
ونجاح تجربة جنوب أفريقيا كأحد التطبيقات الناجحة لمفهوم العدالة الانتقالية، فإن ذلك يرجع بصفة أساسية إلى نجاح المشرع الوطني عقب انتهاء حقبة الفصل العنصري في تبني قانون خاص لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية سمي «قانون تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة» صدر في مايو 2005، حدد اختصاصات ومهام الهيئة المختصة وآليات عملها. ومن أهم قوانين العدالة الانتقالية التي صدرت مؤخراً في دول الربيع العربية، القانون الأساسي رقم 53 لسنة 2013 بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها في تونس. الأهم من كل هذا كما تقول الباحثة ان المصالحة الوطنية لا تعنى بالضرورة العفو العام وافلات المذنبين من العقاب، وهو بالفعل امر غير صحيح على الاطلاق، فنموذج جنوب إفريقيا الذى يعتبره البعض رمز العفو العام، تقول الأرقام انه من بين 7116 طلب عفو، لم تمنح اللجنة عفوها إلا ل 1312 أى رفضت أكثر من 80 % من الطلبات، كما ان ذلك العفو لم يكن ابدا عفوا عاما ولكنه كان عفواً خاصاً ومشروطاً، وقد كانت هذه الشروط هى: الاعتراف بالذنب، وان يكون المذنب قد ارتكب الذنب بناءً على اوامر من قيادته العليا فى ظروف لم يكن له القدرة على رفضها، وان يقوم طالب العفو بتقديم طلبه بنفسه واحيانا كثيرة كان يُشترط موافقة الضحية أو ذويها.
تبلور مفهوم العدالة الانتقالية كبديل لفكرة المحاكم الثورية التي شهدتها بعض الدول في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الماضي، والعدالة الانتقالية هي مصطلح يطلق على مجموعة الإجراءات والآليات التي تطبق في المجتمعات التي تمر بفترات انتقالية- في أعقاب الحروب الأهلية أو الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة سلم، أو الانتقال من حكم سياسي استبدادي إلى حكم ديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم وطني- بهدف مواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان قبل وأثناء التغيير، وإعطاء الحقوق للضحايا وتعويضهم- سواء مادياً أو معنوياً- ومحاسبة مرتكبي الجرائم، من أجل الوصول بالمجتمع إلى حالة الاستقرار، ويشمل مفهوم العدالة الانتقالية أيضاً المصالحة الوطنية بين الأطراف المختلفة حتى يمكن إعادة بناء الدولة على أساس سيادة القانون واحترام التعددية وقيم الديمقراطية. وتختلف العدالة الانتقالية عن العدالة في أن الأولى تعنى بالفترات الانتقالية، ومن ثم فهي تعني بتحقيق العدالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في فترات الصراع السياسي أو العرقي أو الحروب الأهلية، شريطة أن تكون هذه البلاد في حالة انتقال إلى حالة أكثر هدوءاً واستقراراً في حالة الحروب والصراعات، وحالة أكثر ديمقراطية في حالة الحكم الاستبدادي. في حين أن الثانية هي مطلب البشرية في كل الأوقات والأزمان. هدفين أساسيتين تقف أمام تطبيق العدالة الانتقالية في مصر، الأولى هي الفلسفة وراء السعي إلى العمل في ملف العدالة الانتقالية، فهل تقوم على مبدأ عدالة المنتصر، أم إنها ستحتوى كل الأطراف من أجل الوصول إلى الاستقرار وعودة المجتمع إلى حالة السلم والأمن المجتمعي، أما الثانية فهي مدى تقبل كل الأطراف في مصر لعمليات المصالحة والعدالة الانتقالية
كما ان العدالة الانتقالية لا تتطابق مع المصالحة الوطنية، ولكن المصالحة هى إحدي اليات او طرق او مكونات العدالة الانتقالية. وفى بعض الخبرات الدولية كانت رؤية النظام الجديد هو تحقيق العدالة الانتقالية من خلال اداة المصالحة الوطنية، وبالطبع النموذج الاكثر شهرة على الاطلاق هو نموذج جنوب افريقيا بينما الارجنتين على سبيل المثال تبنت منذ بداية النظام المدنى بعد سقوط النظام العسكرى السلطوى فى 1983 فكرة تحقيق العدالة الانتقالية عن طريق الية المحاكمات وليس عن طريق المصالحة مع المذنبين من رجال النظام القديم، وعلى الرغم من تأخر المحاكمات وتعرج المسار الا انه فى نهاية المطاف وصل الى المحاكمات العادية وصدرت العديد من الإحكام .
لذا من يقول إن العدالة الانتقالية وسيلة الجناة للإفلات من العقاب، مضلل، وعلى قدر كبير من الحماقة، اوالخبث. الاهم فى بحث امل مختار انها أوضحت الفارق الكبير بين تحقيق العدالة الانتقالية بشكل عشوائى وبين تحقيقها وفقا لمبدأ البدء بالكشف عن الحقيقة اولا. فعلى سبيل المثال اذا بدأ النظام الجديد بتنفيذ الية جبر الضرر وتعويض الضحايا قبل كتابة الحقيقة سنكون امام مشهد غير صادق وغير فعال تماما كما كان المشهد المصرى منذ اندلاع ثورة يناير وحتى اليوم. لانه فى هذه الحالة سيتحول الى طريقة لإسكات الضحايا. ويكمن الخطر هنا فى امرين، اولا: فى ضياع حقوق العديد من الضحايا عن طريق اسكات جزء منهم بالحصول على بعض التعويضات المالية او حتى المعنوية مثل اطلاق اسم الشهداء على محطة المترو، «او عمل نصب تذكاري».ثانيا: فى عدم مصداقية هذه القوائم بمعنى ان السرعة فى اجراءات التعويضات قبل الكشف عن الحقيقة ربما تؤدى الى نتائج عكسية.
فى حين لن يكتمل مسار الحقيقة الا بعد الاعتراف الرسمى للدولة والاعتذار لهؤلاء الضحايا وذويهم ومحاسبة الجناة عن طريق محاكمتهم ثم تعويض الضحايا وجبر ضررهم معنويا ثم ماديا وبصورة علنية ورسمية. أنه تم تصوير العدالة الاجتماعية بعد 25 يناير وحتى الآن تصويراً مغلوطاً، بحسبانها تخفيف حدة الفجوة بين الحدين الأدنى والأقصى للأجور، وهو ما يدعو إلى الحذر الشديد من أن تكون مصر مقبلة على أزمة قد تنعكس على أوضاعها السياسية في المقام الأول، لذا لا بد من عدالة اجتماعية تطمئن الشعب على وجود عدالة حقيقية تبدأ بإشراك الشباب في كل مفاصل وأركان الدولة، خاصة أن مصر مصنفة كدولة فتية أو شابة يمثل 90% من تعدادها من هم دون الخمسين عاماً، وهو ما لا يتكرر في حياة الأمم إلا كل 300 عام. فلا بد من إشراك هذا العنصر الشاب، وعلى الكبار إفساح الطريق، وإعطاؤه الفرصة كاملة. فإذا كنا جادين في بناء دولة مدنية حديثة، فلا بد أن يكون شعارها اختيار الكفاءات الشابة، وتكريسا حقيقيا لمفهوم العدالة الاجتماعية، بحسبانها جوهر العدالة الانتقالية.
كاتب المقالدكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق