بعد أقل من عام تقريبا على التحاقي بالعمل في إحدى شركات الأغذية الكبرى بالسعودية, تم ترقيتي فجأة وبدون مقدمات من أخصائي تحاليل كيميائية الى مدير إدارة المختبر......كان القرار مفاجئا لي وللعديد من الزملاء وشكل صدمة كبيرة للبعض!
فقد تخطيت درجات عدة في السلم الوظيفي...ومنذ هذا اليوم وأنا على رأس الإدارة ....ضاربا بعرض الحائط
أرشميدس وقانونه للإزاحة ....فلم ينافسي في طول فترة بقائي غير المشير في الدفاع والمخلوع في الرئاسة.
وبعد ذلك بشهور قليلة رشحتني إدارة الشركة للسفر لمدينة مونبيليه بفرنسا للمشاركة في دورة تدريبية هناك.
وكعادة كثير من الناس وعند إقلاع الطائرة أبدء في قراءة آيات من الذكر الحكيم وبعض الأدعية وأردد وراء كبير
المضيفين الحديث النبوي الشريف : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .............وعندما يصل إلى ....اللهم أنى أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنظر ...أفاجي أمامي بفيلم وثائقي يحكي ويعرض كل سلبيات حياتي وشقاوتي ....وعندما تستقر الطائرة ويُعلن قائد الطائرة عن فك الأحزمة ومع أول إطلالة لجمال المضيفة, يتوقف الفيلم فجأة ويعود المرح وتعود معه الأبتسامة.
****
بعد وصولي لمطار أورلي بباريس بدأ النحس في التحرش بي.....فقد فقدت الكاميرا في باص المطار ولم تنجح محاولاتي في العثور عليها, وعندما وصلت لغرفتي بالفندق وبدأت في خلع ملابسي لأخذ حمام دافئ لعلي أجدد نشاطي بعد طول عناء الرحلة واذا بسوستة الجاكت تتفتت إلى قطع صغيرة رغم قسوتها الصلبة فحمدت الله كعادتى ولكن شعرت ان النحس لا يكتفي فقط بالتحرش.....دخلت الحمام لأقضي حاجتى وفوجئت بوجود فقط المناديل الورقية وبدأت أبحث عن "البيديه" أو حتى "رجليه" ولم أجده...وكان لابد من التكيف مع هذا الوضع بعد ان نصحني أحد الزملاء بالإستحمام بعد كل مرة من قضاء الحاجة
****
كانوا المشاركين في الدورة من جنسيات مختلفة وكنت أنا الوحيد الذي يحمل الجنسية المصرية بالإضافة لعدة جنسيات عربية أخرى من الخليج والمغرب العربي
قبل الختام طلبت إدارة الدورة أن يقوم ممثل عن كل جنسية بإختيار أي موضوع يراه مناسبا لعرضه على المشاركين بحيث لاتزيد مدة المحاضرة عن أربعين دقيقة
فكرت أن أتكلم عن حضارتنا وآثارنا الفرعونية...لكني تراجعت سريعا عن هذه الفكرة لأنني لن أضيف لهم شيئا فمعظم آثارنا رأيتها في متحف اللوفر ومسلاتنا في شوارعها الشهيرة, ويعلمون عنها أكثر مني بالإضافة أن لغتي الإنجليزية لن تُمكني من العرض بصورة جيدة.
استقر بي الحال أن أحكي لهم حكاية شعب غاية في الرقي والإحترام والإلتزام والطموح والطاعة...شعب يرجع له الفضل في تقدم البشرية في جميع مجالات الحياة فهو في الحقيقة أصل الحياة.... هذا الشعب هو ما يعرف في علم الكيمياء والفيزياء بالإلكترونات.
****
منذ القدم حاول أسلافنا من الفلاسفة والعلماء التعرف على الذرة ومكوناتها بدءاَ من ارسطوا وبويل فدالتون وطومسون ورذرفورد وبوهر وأخيرا وليس آخرا ...أحمد زويل .....كل هؤلاء بذلوا محاولات عدة وجادة حتى وصلوا لحقيقة ماهية الذرة وماهي مكوناتها.
فالذرة تتكون من نواة يسكنها بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات متعادلة وهناك إلكترونات سالبة الشحنة تدور حول النواة في مدارات تسمى مستويات الطاقة الاساسية وعددها سبع, تزداد طاقتها كلما بعدت عن النواة وأن كتلة ووزن الذرة يتركز في نواتها
****
الذرات تشبه المدن المتكاملة تحتوي في مركزها على قصر رئاسة المدينة محاط بسبعة أحياء سكنية يقبع داخل القصر ما يُعرف بالبروتونات والنيوترونات أما الإلكترونات فإنها تعيش في ألأحياء السبعة, صُممت هذه الأحياء أن تُبنى بشكل دائري بسيط حول قصر الرئاسة...وعلى سبيل المثال تجد مدينة الهيدروجين يسكن بها إلكترون واحد يعيش وحيدا في الحي الأول قرب مبنى الرئاسة وهناك مدينة الصوديوم والحديد واليورانيوم وهكذا.
الأحياء التي تسكنها الإلكترونات يحكمها دستور ونظام صارم, يُطبق على الجميع بعدلِ وحزم.. تسلك الالكترونات سلوكا راقيا في كيفية العيش والوئام بين أفرادها..هناك أحياء فقيرة في الطاقة وهي القريبة من قصر الرئاسة
وياللعجب يزداد ثراء الأحياء كلما بعدت عن الرئاسة وقصرها بينما نحن كلما أقتربنا نزداد ثراءً ونفاقاً وجشع.
أشكالهم تأخذ شكل حركاتهم فتجد الشكل الكروي وهو يعيش في كل الأحياء ومنهم كُمثري الشكل وهذا يعيش أيضا في كل الأحياء ماعدا الحي الأول...ومن رقي تعاملهم وتحضرهم تجدهم يتحركون داخل غرفهم عكس إتجاه الآخر حتى يتجنبوا قوي التنافر بينهم.
طبقا لدستورهم لا يُسمح لأي منهم أن يتواجد أو يتسكع بين شوارع وطرقات الأحياء أو يختلى ليمارس الفجر والفحشاء... لا يعرفون شيئا عن العشوائيات ...أو رشاوي رؤساء الاحياء... لا يمكن ان يخالفوا الدستور والنظام بأن يتواجدا بأكثر من العدد المسموح به لكل حي من الاحياء... لا يعرف عنهم النفاق واللوع والرياء إذا أراد أحدهم أن ينتقل من حي لحي آخر أكثر ثراء... عليه أن يقترض قدرا معينا من الطاقة التى تمكنه من الوصول للحي المراد ....هذا الإقتراض يتم بالتسخين أو بالتفريغ الكهربي..... فيقال في هذه الحالة أن الإلكترون قد تم إثارته....
الإثارة في الإلكترون لا تجعله يخرج على الملأ عاريا كاشفا عورته ليتحرش هنا وهناك ....أو يُعلن عن حيوانيته وحقارته...بل الإثارة للإلكترون هي التحضر والرقي والطموح... فيصعد ويسمو لأعلى وإن لم يستطع التكيف مع إمكانات ومتطلبات الحي الجديد فإنه يعود مباشرة لسكنه الأصلي ولغرفته معززا مكرما وتقام له أحتفالات يضيئ جو الأحتفال تلك الطاقة التى أكتسبها والتي تعرف في الكيمياء بالفوتونات. هذا القرض لا توجد له فائدة ربا أو مصاريف إدارية كما يشاع.
لو أراد إلكترون مثلا أن يهاجر لخارج تلك الأحياء ...لا ينتظر أن تأتي له فيزا أو مركب شراعي أو غير شرعي.... لا يتسول من هنا أوهناك...بل كل ما يفعله أن يتقدم بطلب حصول على قرض يسمى قرض الطاقة....بحيث يجعله يعبر خارج كل الأحياء.....لا يتهمه أحد بالجحود لدينه أو لمدينته أو يتهمه بالكفر وينعته باللإلحاد...لا يقام عليه الحد أو يهدر دمه او فتوى بالتحريض على قتله....بل يقيموا له أحتفال كبير وفي نهاية الحفل يُمنح لقب "أيون" مع الاحتفاظ بلقب مدينته..... فقد اكتسب خواص تختلف كليا عن خواص مدينته الأصلية فيستطيع أن يتزاوج ويرتبط ليعيش في أستقرار تام.
****
نظرت إلى الحاضرين فلم أرى الملل قد تسرب إليهم بعد....فكلهم في حالة إنصات وشجن... نظرت لساعتي فقد تخطت الأربعين دقيقة بكثير ولم يوقفنى أحد ...أعتذرت عن الإطالة في الحديث وطلبت الأذن أن أكمل أو الهتاف بالرحيل.....فجائني الرد سريعا بالتصفيق وأن أكمل الحديث...فبدأت أحكى عن الارتباط والزواج في عالم الإلكترونات وأحكي عن العروسة وأيضا العريس.
حفلات الزواج التي تتم بين إلكترونات المدينة نفسها أو بين مدينة وأخرى تتم عبر وسائل عدة ومتنوعة وشرعية....لكل نوع له شروط ومتطلبات..... هناك من يريد الأرتباط على البارد وفي هدوء دون صخب أو رقص أو موسيقى أومعازيم.... وهناك من يريد الحرارة والتسخين.... وكثيرا يطلب الحفز والتنشيط ومنهم من يحرمه....لا يوجد في شرعهم زواج متعة ... بل زواج خد وهات يسمى في دفاترهم الرسمية بالزواج الأيوني...لايوجد العرفي والمسيار بل يوجد التساهمي.... لا يوجد السياحى والأباحي بل يوجد زواج الجدعنة.
توقفت كثيرا عند زواج الجدعنة وهو زواج يطلق عليه في علم الكيمياء Co-ordinate bond
هو زواج غاية في التكافل ويحمل شيمة أولاد البلد, هناك بعض الذرات مثل ذرة النيتروجين لديها زوج من الإلكترونات غير مشاركة في التفاعل يسمى lone pair
وذرة النيتروجين تريد أن ترتبط بأيون الهيدروجين الموجب الذي لديه قصور أو نقص إلكتروني ويريد أن يكمل نصف دينه ويريد أن يفى بوعده وإلتزامه لنيتروجينته المحبوبة... فتضحي الأخيرة بأحد إلكتروناتها له لتمسح عنه خجل الحاجة وتساعده في إتمام الأرتباط ......ليعيشا بعد ذلك في استقرار وحب تحت إسم "الامونيوم"
أيضا هناك حالات عدة من الإنحلال والطلاق ..لكن من المؤكد لا يحدث في تفاعلاتهم سفالة في السلوك أو غدر أو إنحطاط.
لم يتخيلوا يوما أن يأتي من يتلصص عليهم من خلف الأسوار ليقتحم خصوصياتهم و يصور ويسجل حفلات عرسهم بكاميرا خاصة أبتكرها العالم المصري أحمد زويل والذي نال عن هذا العمل جائزة نوبل للسلام فتحقق ماكان أسلافه من علماء الكيمياء يحلمون به وهو رصد وتصوير لحركة الجزيئات عند نشوئها وعند إلتحام بعضها ببعض وهو ما يحدث من خلال التفاعلات الكيميائية وأستحق أن يكون من أفضل عشر علماء في القرن العشرين.
****
بعد أنتهاء المحاضرة...أسعدني كثيرا أحد المشاركين عندما قال لي معلقا على محاضرتي: أنه قضى سنوات عديدة يدرس فيها الكيمياء والذرة ولم ينتبه لسلوك الإلكترونات الراقي والمتحضر مثلما شعر به الآن
وآخر بعد أن أثنى كثيرا على حسن إختياري لهذا الموضوع..... قال أنتم يا مسلمين لاتهتمون كثيرا بالعلم والتقدم العلمي بل تنظرون خلفكم لأسلافكم ولا تعيرون للعلم الحديث أية أهتمام بالرغم من أن كل نواحي حياتكم يرجع
للعلم الحديث الفضل فيه
قلت له في حدة.... أسلافي أنا هم أرسطو ودالتون وابو بكر وعمر وعلى ورذرفورد وبوهر وكل من أنار طريقي وزادني يقينا وإيمان أن هناك خالق لهذا الكون وان هناك رسل وهناك انبياء......أما من يحرضني على الكراهية والقتل والأرهاب ليس بسلف بل أداة للتخلف والتلف.
0 تعليقات:
إرسال تعليق