Ads

الشريعة الإسلامية والحضارة


دكتور عادل عامر
إن الحضارة ليست في تطاول البنيان واتساع الشوارع وانتشار وسائل الاتصال المتطورة ونحو ذلك، بل إلى جانب ذلك لا بد من مجموعة القيم الثابتة كالإيمان والصدق والعدل والوفاء بالعهود والتعاون واحترام كرامة بني آدم، وهي التي تجعل من تلك المنجزات أداة للخير والصلاح، وليس أدوات شر وفساد وتدمير كما هو الحال في الحضارة الغربية المعاصرة. و أياً كان الأمر، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية في شقها «المدني» أو «الحضاري « لا تمكن مقاربتها إلا كنظام قانوني وطني، بغض النظر عن المعتقد الديني أو حتى الطائفي أو المذهبي لأي نسبة من المواطنين، بحيث يمكن النظر إلى الشريعة نظرة «موضوعية» خالصة من شوائب التكفير واحتكار الخلاص الأخروي، أي كشريعة نابعة من إرث حضاري مشترك بين جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية أو المذهبية.
 تخاطب الشريعة الإسلامية المكلفين في كل مكان وزمان وتنظم كافة جوانب الحياة البشرية ، ومن هنا كانت حضارة لها ملامحها المميزة ولها خصوصيتها وطابعها . لم تكن حياة البشرية قبل الإسلام تختلف كثيراً رغم الفرق الهائل في مستوى الرقي الذي بلغته الإنسانية اليوم ، فقد كانت حياة العرب في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام والتي عرفت بالجاهلية تتسم بالغلو في الحريات وغلبت عليها الماديات فكان الإنسان سلعة رخيصة يسفك دمه ويهدر عرضه من أجل نزوة عابرة وها نحن اليوم نعيش ذات العصر ولكن بأسلوب علمي متقدم . وهكذا أيضاً تزول عن الدولة الصبغة الأيديولوجية الدينية، فتكون دولة مدنية محايدة، أما المفاهيم والقيم المنبثقة عن الشريعة الإسلامية كوعاء حضاري وكرؤية كونية للمجتمع ككل فيتضمنها الدستور ولا يمثلها أي تيار سياسي معين وتخرج من دائرة الصراع السياسي. وقد شهد بفضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوربية أبناؤها؛ يقول الفيلسوف الفرنسي "جوستاف لوبون" في كتابه "حضارة الغرب": "هل يتعيَّن أن نَذكُر أن العرب - والعرب وحدهم - هم الذين هدَونا إلى العالَم اليوناني والعالم اللاتيني القديم، وأن الجامعات الأوربية - ومنها جامعة باريس - عاشت مدة ستمائة عام على ترجمات كتُبِهم، وجرَت على أساليبهم في البحث، وكانت الحضارة الإسلامية مِن أعجَب ما عرَف التاريخ".
بدأ الحديث عن الخصوصية العربية الإسلامية منذ مطلع القرن في خضم الدولة الاستعمارية القديمة والحركة الثقافية المتأثرة بها والتي جرت مقاومتها دائما وفي الخطوط الكبرى عبر تيارين: تيار محافظ ومنغلق على نفسه، وتيار إصلاحي متقبل لأفكار الغير مع التمسك بمقومات ثقافية عامة نابعة من التراث الديني ومنظومة القيم الاجتماعية والاعتقادية السائدة. فمنذ مطلع القرن، خصص جمال الدين الأفغاني كتابا للرد على الدهريين، ونقرأ عند هذا المفكر نقدا حادا للوجود الاستعماري مع حث على اقتباس العلوم والمعارف عند الأوربيين. كذلك فعل عبد الرحمن الكواكبي حين أكد على ضرورة وضع حد للنظام السياسي الاستبدادي العثماني وشجب احتلال العديد من الدول الإسلامية من قبل فرنسا وبريطانيا الأمر الذي لم يمنعه من التعاطف مع تصور اشتراكي ديمقراطي للحكم يجد مشروعيته في الإسلام الأول المناهض بطبيعته لمنظومة الخلافة وأئمة الاستبداد.
فترى حضارة الإسلام تجمع بين الروحية والمادية، أو مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، وتجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتهتم بالدنيا كما تهتم بالآخرة، كما تجمع بين المثالية والواقعية، ثم إن فيها توازنًا بين الحقوق والواجبات. ومعنى التوازن بين هذه المتضادَّات أن يُفْسَح لكل طرف منها مجاله، ويُعْطَى حقَّه بالقسط؛ فلا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله سبحانه بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
وإذا ما أردنا توضيح ذلك، فإنه قد تبيَّن من تاريخ الحضارات السابقة أن كلاًّ من الجوانب الرُّوحيَّة البحتة أو المادية البحتة وَحْدَها لا تَصْلُح أن تكون سبيلاً لسعادة الإنسان، فليس في مسلك الروحية البحت سوى التخلُّف، وتعطيل الإرادة والتفكير وطاقات العمل، وقتل آدمية الإنسان، وخسارة منافع الكون، وكذلك ليس في مسلك المادية البحتة سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذلِّ، والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض. وهنا جاءت حضارة الإسلام الخالدة لتُزَاوج وتوازن بين مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، أو بين الماديَّة والرُّوحية الإنسانية؛ فتصبح الرُّوحية المهذَّبة أساس المادِّية المهذَّبة، وعندها ينعم الإنسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل، في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبَّة فمن شأن ذلك التوازن إذن أن يُحَقِّق الانسجام والتوافق بين الفطرة الإنسانية والغاية العقلية، وكذلك التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الإنسان وخيالاته، وإراداته ونياته. وليس في حضارة الإسلام تلك المثالية الخيالية التي لا وجود لها إلا في عالم الأحلام، مثل التي أنشأها أفلاطون في المدينةِ الفاضلة، والتي هي بعيدة كل البعد عن واقع الإنسان وما ركّب فيه من غرائز ونزعات، وما يعتريه من نقص وقصور. كما أنه ليس في حضارة الإسلام تلك الواقعية التي تعني الرضا بالواقع، أيًّا كان وضعه أو صورته، أو أن تُطَوِّعَ حضارة الإسلام مبادئها لتوافق الحياة على أي لون، أو لتساير الواقع على أي شكل؛ فلم تأتِ حضارة الإسلام لتُرَبِّت على شهوات الناس وأنظمتهم، أو لتَرْضَى بأوضاعهم المختلَّة وتقاليدهم المعوجَّة..
إنما جاءت لتلغي كل أشكال الجاهلية ونُظُمِهَا، ولتنشِئ من ذات نفسها نظامًا خاصًّا بها، قد يتشابه في جزئيات مع واقع الناس وقد لا يتشابه؛ فقد جعل الإسلام مثلاً إنكار المنكر فريضة، ولكنه فريضة متدرِّجة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". فأعلى درجة في إنكار المنكر تمثل المثالية، وهي لمن كان قويَّ الإيمان، ثم تنزل الدرجات مراعية ضعف قدرات البعض وتفاوتها. كما أن الإسلام وازن بين المادة والروح ، فهذب الطباع القاسية ، وطهر القلوب الدنسة ، وارتفع بفكر الإنسان وعقله ، داعياً إلى القيم الفاضلة والمبادئ الراقية العظيمة ، لا إفراط في الحريات وإشباع الرغبات ، ولا رهبانية وانقطاع للعبادة وإهمال للدنيا . يقول تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا } .
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية

0 تعليقات:

إرسال تعليق