دكتور عادل عامر
تعد حرية الرأي من الحريات العامة الأساسية التي كفلها القانون الوضعي للفرد ، وهي بمثابة الحرية الأم لسائر الحريات الفكرية ، ذلك إن أصل الرأي فكرة كامنة في الذهن ، وتتعدد مظاهر التعبير عنها ، فأما إن يكون ذلك التعبير قولا أو كتابة أو عن طريق تشكيل و إنشاء الجمعيات أو عقد الاجتماعات و التجمعات أو التعليم ، و غيرها من المظاهر. وعليه فان الفرد متى ما كان حرا في التعبير عن رأيه كان حرا في ممارسة الحريات الفكرية الأخرى، باعتبارها مظاهر للتعبير عن الرأي. تميزت حرية الرأي في العصور القديمة بامتهان كرامة الإنسان فتفشى نظام الإقطاع وتحكم امتياز النبلاء وهيمنة رجال الدين فأصبحت الكنيسة هي مصدر التشريع الذي لا يعارض مما نجمت عنه تراكمات من العقوبات الوحشية باسم الدين وهو براء منه فانتشر القتال والاقتتال وغير ذلك من شتى أنواع مصادرة حرية الإنسان حتى أصبح كل من عبر عن استنكاره لتلك الجرائم يعدم بعد أن يعذب ثم استمر هذا الوضع إلى نهاية القرن 13 عشر المسيحي السابع الهجري فتتابعت الصيحات بالمطالبة بالتخلص من هذه المحن وهكذا صدرت في بريطانيا وثيقة العهد سنة 1215 بسبب ثورة النبلاء على الملك “جون” ثم تلتها وثيقة أخرى سنة 1689 ليتوج ذلك بوثيقة الحق سنة 1701 ثم تعزز هذا المسار التقنيني بإعلان حقوق الإنسان والمواطن بفرنسا عام 1789 التي تنص المادة 11 منه على أن “حرية التعبير من الحريات الأساسية للإنسان وتقر بأن لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بكل حرية إلا في حالات الإسراف في هذه الحرية وفقا لما يحدده القانون ثم تلاها مجموعة من الإصدارات إلى غاية صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد سنة 1948 الذي نصت المادة 19 منه على هذه الحرية.
وفي الإسلام نجد أنه أعطى أهمية كبرى لحرية الرأي لأنها من المرتكزات الأساسية للكثير من القواعد الشرعية ولأنها تجلي الحقائق وتطهرها في النهاية على الرغم من الأهواء والتزييف. فبعد أن كان إبداء الرأي أمرا منبوذا في ظل شرائع ما قبل الإسلام جاءت الشريعة الإسلامية وأقرت هذا الحق لجميع فئات المجتمع وحيث لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة العامة لإبداء حرية الرأي وإنما كان يحث أصحابه على ممارستها معه فكان يستطلع آراءهم في الشؤون العامة والمصالح الخاصة .
وما أروع ما أفصح به عمر في هذا الصدد عندما تولى الخلافة فقد خطب في الناس يقول: “إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوموني فيقوم إليه رجل ويقول له لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا” فيستبشر عمر ويحمد الله لأنه استوثق من أن هناك رجالا في الأمة يمكنهم أن يجهروا بالحق ولن يسكتوا عن الظلم.
إن الرأي هو حصيلة التفكير العقلي ونتاجه ، بل هو وسيلة التعبير عما يثور في العقل من أفكار. و بما إن الإسلام قد عظم العقل ، ودعى إلى أعماله في كل الأمور لذلك فانه كفل حرية الرأي ودعى إليها ، وهي بهذا المعنى لها ممارسات عديدة ، تتضح من خلال المبادئ والأسس الأساسية التي دعى الإسلام إليها كركائز أرسى عليها دعائم حكمه ، وأركان مجتمعه والتي تعتمد في أساسها على حرية الرأي.
إن حرية الرأي حرية جامعة تحت ظلالها لسائر الحريات الفكرية الأخرى ، فهي تعد بمثابة الحرية الأم لتلك الحريات، فهي تضم حريات التعليم والعقيدة والعبادة ، وحرية الاجتماع وتأليف الجمعيات ، وحرية الصحافة ، وحريات أخرى كثيرة ، ونجد إن هذه الحريات لا تتفرع عن حرية الرأي وإنما هي من مظاهر التعبير عنها . ذلك إن تلك الحريات ترتبط ارتباطا وثيقا بحرية التعبير عن الرأي ، إذ تبقى ناقصة متى ما لم يتمكن المرء من التعبير عن أفكاره وآرائه ، سواء أكان ذلك في أحاديثه في جلساته الخاصة أو المجالس العامة أم في كتبه ومقالته هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فان الرأي أمر باطني ينحصر داخل النفس البشرية فإذا انطلق من الباطن إلى الظاهر وأعلن للناس كان أثره ابلغ وافقه أوسع ذلك إن حرية الرأي تبيح للإنسان إن يكون رأيا خاصا في كل ما يجري تحت ناظريه من أحداث ، ومعنى ذلك إن ما يميز هذه الحرية إنها أساسية في الحريات الفكرية ، وأنها جدا خطيرة في الحياة العامة و الخاصة على السواء ، ويترتب على ذلك إنها أكثر التحديات حاجة للتنظيم بحيث لا تتعارض حرية الفرد مع حرية المجتمع كله بقيمه ونظمه ومؤسساته ، ولا تتعارض حرية الفرد مع الفرد الآخر ، و القانون هو أداة هذا التنظيم. ويلاحظ إن هذه الحرية متى ما حبست في الإطار الداخلي للفرد فهي لا تثير أي مشكلة قانونية ، أما إذا تجاوز الرأي الإطار الداخلي لصاحبه وتجسد بقول أو سلوك أو أحدث أثار اجتماعية فان القانون يتدخل لوضع الحدود والضوابط اللازمة له ، ذلك إن الفرد داخل الجماعة تتأثر علاقاته بأقرانه من بني البشر من جهة ،وبالسلطة العامة باعتباره كغيره من المواطنين يخضع لها من جهة أخرى . وعليه لكي يكون هناك ولاء من المواطن للسلطة ، على هذه الأخيرة إن تكفل له حقه في التعبير عن رأيه ، بالطريقة التي يراها أكثر الطرق اتفاقا مع الطبيعة الإنسانية ، علما إن ما تضمنه السلطة من حقوق للإفراد ، يختلف من دولة إلى دولة ، وفي الدولة الواحدة من زمن إلى آخر ، لأنها تخضع لقاعدة النسبية التي تسيطر على تطور كافة النظم السياسية والاجتماعية ومما تقدم نخلص إلى إن حرية الرأي من الحريات العامة ، و التي تهم الأفراد في مجموعهم منظورا إليهم بوصفهم يكونون ركن الشعب كأحد أركان الدولة الثلاث وهي الشعب والإقليم و السيادة التي تمارسها الحكومة . ومن حق الفرد إن يتكلم وان يبدي رأيه حسبما يرى عقله ، ولكن حسبه في ذلك إلا يقول ما يؤدي إلى إلحاق الضرر أو الأذى بالدولة. وكذلك الحال بالنسبة للدستور المصري الحالي فبالرغم من كفالته لحرية الرأي وإقرارها كحق لكل إنسان بالتعبير عنها بكافة الوسائل إلا انه جعل ذلك كله في حدود القانون ، وهذا يعني انه قد ترك للمشرع العادي مجالا في إن يضع ما يراه ملائما من القيود بشرط إلا يصادر هذه الحرية كليا و لا تكون هذه القيود متعارضة مع أحكام الدستور ذاته وتطبيقا لما تقدم فان المشرع المصري وجد ضروريا إن يعاقب في المادة 147 من قانون العقوبات المصري على التحريض على قلب نظام الحكم والتحريض على كراهيته والازدراء به والترويج للمذاهب التي ترمي إلى تغير المبادئ الدستورية الأساسية أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة أو بالإرهاب أو بأي وسيلة أخرى غير مشروعة ، كذلك عاقب في المادة 179 عقوبات على اهانة رئيس الدولة ، وفي المادة 186 عاقب على اهانة مجلس الشعب أو الجيش أو المحاكم. والمشرع في جميع هذه الأحوال قد حد من حرية الرأي وفقا لإحكام الدستور. ومع ذلك يلاحظ أحيانا إن القوانين قد بالغت في أمر تنظيم حرية الرأي إلى حد تقيدها ، وجعلت منها مجرد رخصة من السلطة العامة في الدولة ، فحرية الاجتماع على سبيل المثال تخضع خضوعا مطلقا لسلطة الإدارة من حيث تحديد أماكن التجمع وأوقاته والميول السياسية للأفراد المجتمعين ومع ذلك فان سلطة الإدارة لا تمتلك إلغاء ممارسة الحرية ، إلا إذا انعدمت وسائل تحقيق النظام و إعادته ، لذا يمكن القول إن سلطة الإدارة ليس عليها فقط حفظ النظام و تأكيده بل يجب عليها إن تسمح بممارسة الحرية دون الإخلال بالنظام العام ، فهي تملك تنظيم ممارسة الحرية و ليس سلطة منع أو تحريم أو إلغاء ممارسة الحرية
كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية
0 تعليقات:
إرسال تعليق