Ads

ما أحوجنا لعقلاء مثل عبد الوهاب المسيري! في الذكرى الخامسة لرحيله


د. رزان إبراهيم

ذاك رجل يصدر في أعماله عن عقلية نقادة قادرة على النفاذ إلى أعماق ما تقرأ، وقادرة على تحليل المعلومات، وإعادة التفسير والتركيب. وهي الأعمال العظيمة التي ما كان لها أن تظهر لو لم يتوفر لصاحبها تلك الإرادة القوية التي تدفعه قدما بمعزل عن الشروط التي يفرضها العالم الخارجي، فقد أحجم وبإصرار كبير عن القيام بأي عمل يتناقض مع مشروعه الفكري أو يعوقه. فالمثقف الذي يمثله المسيري هو شخص راهن على حس نقدي نأى به عن الأفكار المبتذلة أو المتملقة، وكانت النزعة الإنسانية في داخله المحرك الأكبر لكتابات ما فتئت تقاوم كل أشكال الاستبداد والسيطرة والظلم. 
في خضم إعلاء متناه في نهجه لكل ما هو أخلاقي وإنساني، نجده حريصا على التمسك بضوابط خاصة لحفظ حقوق الجماعات الإثنية والدينية المختلفة، لذلك فهو لا يؤمن بأن الديمقراطية هي رأي الأغلبية، فإذا كانت الأصابع المرفوعة هي المرجعية النهائية، فهذا يعني أننا أمام ديمقراطية بلا مرجعية أخلاقية أو دينية؛ فهتلر على سبيل المثال, وصل إلى الحكم من خلال القنوات الشرعية الديمقراطية. فلكي تكون الديمقراطية هي صوت واحد لكل مواطن، لا بد من توفيرالمعلومات كاملة لهذا المواطن، مع ضرورة وضع سقف واحد لما يمكن أن ينفقه المرشح الواحد حتى تدار المعركة الانتخابية؛ ففي عصر الميديا، يمكن لأصحاب المصالح الكبرى أن يؤثروا في نتائج الانتخابات لأسباب لا علاقة لها بمصلحة الجماهير أو الوطن. ومن هنا لا يتصور أحد أن الحرية في أمريكا مطلقة, والغالبية الساحقة من الناس ليست لديها القدرة النقدية العالية، فالإعلام عزلها عن الأحداث العالمية، والسلطة الحاكمة تملي ما تريد من أفكار في أطر محددة مفروضة، وتضبط سلوك الملايين نحو الإنتاج والاستهلاك، بغرض خلق الكائن المتشيء العاجز عن إدراك الأغراض النهائية. فيتم إعادة تشكيل صورة الإنسان بطريقة تؤدي إلى تنميط الحياة، وانتفاء الحرية، مما يعني حسب أدورنو، تناقض استقلال الفرد. 
كل من يعرف المسيري، يدرك أنه ليس من دعاة الإطلاق في الرأي، وهو من المؤمنين بالنسبية الإسلامية، بمعنى أن هناك مطلقا واحدا هو الله، وما عدا ذلك فاجتهادات إنسانية، كما يعلم رفضه علمانية شاملة؛ فثمة ما تقتضيه الحياة الدنيا مما لا يتعارض مع الدين, ولكنه لا يتصل بالضرورة به , أو يستمد منه؛ ففي وقت يطالب فيه بفصل الدين عن الدولة, نجده وقد ترك حيزاً للقيم الدينية ما دامت لا تتدخل في عالم السياسة بالمعنى الفني. ومن هذا المنطلق نجده قادراً على محاكمة الصهيونية باعتبارها إحدى تبديات نموذج العلمانية الشاملة, إذ حولت أرض فلسطين والفلسطينيين, وحتى أعضاء الجماعة اليهودية إلى مادة استعمالية.
لا تكون الكتابة عن المسيري بغرض الإشادة به، فهو وكما يقول الأستاذ سعد البازعي عنه, حقق من الشهرة والمكانة ما هو جدير به، لكن تبقى لهذه الكتابة أهميتها باعتبارها دعوة ضمنية لتتبع خطى هذا الرجل، وترسم هدى فكره ورؤاه بغرض المضاعفة من تأثيرها. وأستطيع تسجيل النقاط البارزة التالية تجاه هذا المفكر المصري الاستثنائي:
أولا: لم تكن استفادته من المناهج الغربية بالنقل والتكرار، وإنما أفاد منها عبر رؤية تاريخانية، تقوم على دراسة متأنية ومعمقة للمادة النقدية الغربية في شرطها التاريخي والحضاري، وتستند إلى حد كبير إلى وعي نقدي، جعله مؤهلا للحوار من موقع منفتح يستوعب معنى اللحظات التاريخية، ويحتفي بكل ما هو إنساني، وهو القائل في أكثر من موقع أن النزعة الإنسانية هي سبيلنا الوحيد لمجابهة الظلم. فالقيمة الحقيقية لهذا العالم أنه يمثل نوعا جديدا من الفكر العربي المستنير، المستوعب للإنجاز العلمي الغربي، ولكن الناقد له في ذات الوقت، فقد نجح بشكل لافت في كسر تلك الازدواجية القديمة التي قسمت النخبة العربية بين إسلاميين تقليديين منقطعين عن أصول الحضارة الحديثة، ورجال ثقافة من حملة الفكر الغربي المنقطعين بدورهم عن خصوصية تراثهم الحضاري بشكل كامل.
ثانيا: تأتي أهمية المسيري باعتباره واحدا من أبرز المفكرين الذين قدموا مشروعا معرفيا شبه متكامل، يربط بين الفكر والواقع، فهو صاحب فلسفة خاصة يظهر فيها النموذج المعرفي باعتباره تطبيقا واقعيا للرؤية الإنسانية، وهو ما تبرزه مقولات عمادها أسس نظرية ما فتئ يبني عليها بشكل تحليلي/تركيبي تصوراته الواقعية. ومن هنا جاء سعيه إلى تأسيس حداثة إنسانية تنطلق من فكر إسلامي معاصر.
ثالثا: يجسد المسيري وبشكل لافت المفهوم الجرامشي للمثقف العضوي الملتزم، الذي يشهد له بإحداث تأثير ملموس في وعي مجتمعه، وهو ما تمثل في وجود أكثر من مستوى في كتابته: أحدهما مستوى الكتابة الفلسفية والنظرية عالية المستوى الموجهة للنخبة من المفكرين والمتخصصين، وثانيهما مستوى الكتابة الوسيطة التي يستهدف فيها جمهورا عاديا من القراء المستمعين. ولذلك استحق وصف فؤاد السعيد له بأنه فيلسوف المفكرين والبسطاء.
وفي الختام أقول في هذه العجالة: إن المسيري كما يصفه البازعي هو بحق مثال العالم المتفرد بفكره ورؤاه ومنهجه الذي اختطه، فقد رفض المادية العلمية، وأعاد الاعتبار للخيال والمجاز والحدس في عملية التفكير العلمي، وخرج بالظواهر اليهودية والصهيونية من دائرتها المغلقة حين وضعها في سياقات تاريخية مختلفة تجعلها متعددة الأبعاد، لا تنحصر بظاهرة مغلقة واحدة تتسم بالوحدة. تغمده الله برحمته وأملنا بأن يرحمنا الله في أوقات صعبة نمر بها بمن يعمل عقله, ويسخر فكره على النحو الذي قدمه المسيري حين أشبع ما أطلق عليه في سيرته (ذئب الشهرة) بعيداً عن الشروط التي يفرضها العالم الخارجي، فهو من أحجم وبإصرار كبير عن القيام بأي عمل يتناقض مع مشروعه الفكري أو يعوقه، وقبل من الوظائف وحسب ما يمكن أن يخدم مشروعه الفكري الإنساني, لذلك نذكر رفضه القاطع لأي منصب إداري من أي نوع في حياته، وكان عمله مستشارا ثقافيا للوفد الدائم في جامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم في نيويورك في إطار لتحقيق مشروعه العظيم. تحية إجلال وإكبار لروحه الطاهرة.


0 تعليقات:

إرسال تعليق