Ads

قواعد بلا رؤوس


عبد الرازق أحمد الشاعر

في مثل هذا اليوم الملبد بالثورات، ومنذ عشرة أعوام تخلت، سجلت الكاميرا بزومها المشرئب سقوط تمثال الرئيس العراقي الأسبق في ساحة الفردوس ببغداد وسط تهليل ثلة من الشامتين وكثير من الحانقين، لينتقل حامل الكاميرا بعدها إلى مشهد سقوط اللحم من فوق منصة الإعدام. وبين المشهدين أسهب مخرج الإعلانات التجارية في عرض فظائع الرجل وانتهاكاته، وفتحت الأرض بطنها فجأة لتخرج أسراب القتلى الذين أبادهم النظام في مذابح جماعية شتى. ورأينا الرجل يقف بقامة منتصبة أمام رئيس محكمة ترتجف يداه بأوراق الإدانة ويملأ حلقه بين الحين والحين بسعال مفتعل كي يتفادى السقوط أمام أصابع التاريخ الموجهة ضد عينيه الزائغتين. 
وبعد محاكمات مطولة احتلت حيزا غير قليل من وقت المشاهد العربي، وشدت أوتاره أكثر مما ينبغي، قررت هيئة المحكمة الموقرة فصل الرأس عن الجسد. وعلى إثر ذلك، اقتربت الكاميرا من عيني رجل يساق نحو أنشوطة النهاية ثابت القدمين غير عابئ بصغار القوم الذين قابلوه بعبارات عنصرية بغيضة عند خشبة المشهد الأخير. وصفق المشيعون لسقوط ما تبقى من عمر الرجل بين أقدامهم، وقدموا الرأس هدية لملايين المسلمين في أضحاهم، ليقول أحد الشيعة الموتورين تحت المقصلة: "اليوم ضحينا بالسنة." 
ويومها أعلن البيت البوشي انتهاء عصر الصدام، وبداية عصر الديمقراطية. ولم تخف إيران وإسرائيل شماتتها لسقوط الرمز، ولم يميز المشاهد الطيب في عالمنا الآيل للثورة وجوه المهنئين في عواصم الشماتة الثلاث. وبدأت العيون العربية المتوجسة تتجه نحو قبلتها الديمقراطية المستحدثة، وراقبت خطوط التماس وما يدور في أعماق عاصمة الحرية لتشاهد مطاردات الكاوبويز لعصابات النظام المسلحة، وترى كيف أن رجال المارينز حالقي الرؤوس يستطيعون الطيران مثل خفافيش الليل ويتسلقون كالباتمان أسوار الحدائق والمزارع والبيوت. وتوقع المراقبون أن يسيطر القادمون من أقاصي الديمقراطية فوق ظهور أحلامنا على الأمر في غضون أشهر معدودات. 
لكننا، وبعد عقد من الأوتوقراطية الفجة، لا زلنا نتابع مسلسلات الدمار والحرب ونرى العراقيين وسط ضباب المشهد ودخان القنابل يركضون كما ركض زعيمهم ذات ملاحقة أمام كاميرات المراقبة الهوليودية، غير أنهم لا يعرفون مصدر القنابل التي تستهدف تجمعاتهم وأمنهم وتقاسيم مستقبلهم. لا نرى اليوم أثرا لديمقراطية العم بوش فى أرض الخلافة الربيعية وما حولها. بل نرى براميل الغضب تتفجر في كل الأنحاء ونسمع عبارات العنصرية نفسها تتفجر من الأفواه والأحداق. 
اليوم، وبعد عشر سنوات من الحرب الأهلية والمطاردات والعنف، يقف العراقيون عند قاعدة تمثالهم الجرانيتية يتأملون موقع تمثال نحته الخوف وأسقطته العمالة في انتظار تحقيق وعد بوش الذي تأخر أكثر مما ينبغي، ويتساءلون: "هل يكذب قادة العالم الحر كما يكذب قادتنا؟ أم أن البحث عن بقايا الأطعمة وبقايا الأمل في زرائب التاريخ المهملة سنة من سنن الديمقراطية وطقس من طقوسها؟" اليوم، وبعد عشر سنوات من الحرية والديمقراطية الموعودة، يقف العراقيون حول قاعدة الجرانيت في انتظار تمثال يملأ فوهتها الفاغرة. 
وبعد عشرة أعوام من الثقة في غير محلها، لا زالت العيون العربية معلقة بسماء الديمقراطية في انتظار المن والسلوى. لكنها اليوم معلقة بسماء تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. وهكذا تنضم كل يوم إلى رقعة الشطرنج الربيعية جدا مربعات جديدة لتغير قوانين اللعبة، وتسقط بين الحين والحين تماثيل فردوسية جديدة في صحون عواصمنا البلاستيكية. وحول كل قاعدة، يتحلق الشامتون ليهللوا ويكبروا ويتقاتلوا كما ينبغي في انتظار تحقيق وعد قطعه على نفسه بوش الإبن قبل أن يسقط تمثاله هناك.
بعد عشر سنوات من الحرب الديمقراطية الضروس ضد تماثيلنا الفردوسية يقف العرب أمام التاريخ بلا تماثيل وبلا رؤوس ليشهدوا معارك لهم. وفي كل يوم تتسع دائرة الفراغ والعنف فوق تربتنا الزلقة دون أن يتفضل عالم بخفايا الأمور من جهابذة المخابرات في بلادنا المستباحة بتقديم تقرير للشعوب الظامئة للحرية عن حقيقة ما يجري في ساحاتهم الفردوسية. ويبقى السؤال: "متى يتوقف الراقصون حول صحون الرخام عن الوقوف فوق دبابات الوعود الزائفة في انتظار ديمقراطية لا تجيء؟" معلقا برقاب لا تمل الانتظار عند حفر التاريخ الملغمة. 


0 تعليقات:

إرسال تعليق