حين اشتدت وطأة الحصار الألماني على الجنود الفرنسيين المتحصنين بأسوار ميتز، أمرهم القائد بازين بإلقاء أسلحتهم والخروج من مخابئهم وأياديهم الخاوية فوق أقفيتهم المقددة اعترافا بالهزيمة. وخرجت الجرذان من مخابئها ذات مسغبة لاهثة من عطش وراعشة من خوف لتعلن سقوط آخر الحصون الفرنسية في حجر الألمان.
وفي عام 1873، قُدم بازين للمحاكمة بتهمة الإهمال والتقصير عن أداء الواجب. يومها وقف الجنرال الضخم حاسر الرأس مجردا من الألقاب والنياشين أمام القاضي أومال مبررا خيبته. قال الرجل ممتعضا: "ما الذي كان بوسعي فعله؟ لم يكن هناك حكومة ولا نظام. لم يكن هناك شيئ أراهن عليه يا سيدي." لكن القاضي الذي بدا منشغلا عن مرافعة بازين المطولة، رفع حاجبه فجأة ووجه نظرة قاسية للرجل خلف القضبان وقال: "كانت هناك فرنسا أيها الجنرال."
بالأمس القريب، تحركت ملايين الأقدام الغاضبة خلف نداء واحد، وغرزت خيامها في قلب الميادين لتقسم بوكيد الأيمان أنها لن تعود إلى ديارها إلا بخضاب الحرية. ويومها ذهب من ذهب، وعاد من عاد ليحكي لمن آثر القعود أول مرة عن ميلاد الجمهورية الثالثة. وتنفست أمهات من عادوا الصعداء، وحوقلت أمهات الشهداء بعد أن زُف إليها نبأ شهادتهم.
وبعد عامين من الانتظار الممض، لم يتغير لون السماء الكالح ولم يفض نيل الأمل ليروي حلوق الطاوين على جروحهم، ولم يشرق أي نهار فوق تلالنا الحزينة. وظلت خفافيش الظلام تعشش في الوزارات وتحرك أذنابها في كل الشوارع والميادين، وتخرج من خلف القضبان لتخرج لسانها للمتفاخرين بشهدائهم على مرأى ومسمع من حكومة عاجزة وإعلام موجه.
وأتت السياسة على بقايا الثورة حتى أصبح الناس يشيرون بأصابع مرتعشة على خارطتنا المهشمة ويقولون: كان هنا ذات يوم ثورة. ولم تلبث ريما أن عادت لخيبتها القديمة، وتوارى الشهداء خلف جداريات سرعان ما طمست، وغفل الثوار عن ثورتهم حتى سرقها تجار الفضائيات المكيفة والسجون المبنية بالعسجد والزبرجد، وتفرق الناس بين مؤيد لدستور لا يساوي حبره، ومعارض لحزب بلا رؤية ولا أفق، وتفرق الناس أشياعا بين يمين ويسار، وأهل جنة وأصحاب نار، وأصبحت السياسة مهنة من لا عقل له.
وسط كل هذا الهرج، يخرج اليوم بعض الثوار ممن بقى في عروقهم ثمة حماس، وثلة من الأولين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ساعة ثورة، والمفتونون بالكراسي والسلطان، والكثيرون من الممولين من كافة سفارات الأرض ليفترشوا ميادين الثورة ويطالبون بالسقوط. لكن السقوط في عرف المجتمعين فوق أرصفة الخذلان ليس ملة واحدة. فمنهم من يطالب بسقوط نظام لم يحقق مطالب الثورة ولم يقتص للشهداء، ومنهم من يطالب بسقوط حزب لم يتفوق إلا في لعبة الانتخابات واحتكار السلطة، ومنهم من يطالب بسقوط المؤسسات بدعوى عدم تشييد الجمهورية الثالثة على أساس باطل. لكن الكثيرين منهم يطالب بسقوط الوطن.
ألا فليعلم كل بازين في هذا الوطن المحاصر من الأقربين والأبعدين أنه مسئول عن حماية ثغره، وأن لا عذر له أمام التاريخ إن هو تخاذل وترك موقعه بدعوى أن لا حكومة ولا نظام ولا شيء هناك. فهناك دوما وطن يستحق أن نحميه وإن تخاذل عن حمايته الجميع أو تآمرت عليه كافة أجناس الأرض.
0 تعليقات:
إرسال تعليق