Ads

يوتوبيا اللامكان

د. هاني حجاج
hany_haggag@hotmail.com

"العالم مكان جميل، ويستحق القتال من أجله"
هل هذا حقيقي؟! ...
قبل أن تتحمس وتجيب بسرعة يجب أن تعرف أن الذي قال هذه العبارة هو الأديب (أرنست همنجواي) الذي مات منتحراً بوضع فوهة البندقية في فمه، ثم ضغط الزناد بأصبع قدمه!! ...
وقبل أن تذكر كلمة (الجمال) بالبطاقات البريدية الملونة وبطاقات أعياد الميلاد واللقطات السياحة للعالم، تذكر أيضاً أن هذا العالم نفسه لا هم له الآن سوف تدبير نظم استراتيجيه جديدة لأغراض لها سوي نسف الكرة الأرضية!، ... والذي تراه على شاشة التلفاز وصفحات الجرائد صورة لعمليات تجريب ناجحة! ... وكما يقول (بوكانون): "تستطيع الحضارات، والأمم، والدول أن تموت بطرق  عديدة!"
هذا العالم الجميل قد أصابته لوثة تدفعه إلى الانتحار!! ...
قال (جاك نيكلسون): "كانت هذه البلاد طيبة جداً، ولا أستطيع أن أفهم ما الذي دهاها!" ...
هذا العصر هو عصر الاستكشافات ... عصر الفيزياء والمريخ ... على صهوة صاروخ تجوب الفضاء بحثاً عن كائنات لم تشاهدها من قبل ... نقف على القمر ...نجمع تراب الكواكب ... ولكن ... في الداخل ... في العمق ... في نفس فنان وعقل كاتب وروح مفكر، هناك قلق عميق واضطراب ... لقد بدأ العالم مغامرته الكبرى ... دبابات ... مدرعات ... غازات سامة ... سلاسل ... قيود ... سوف للنخاسة ... وسوف للسلاح! ...
حاول أن تبحث لنفسك عن موطئ قدم في مكان ما تعس ... بين ملايين الجثث والمرض الملقاة في أحشاء البحار وعلى رمال الصحراء وبلدان تموت تحت أقسي مناخ ...! .... بلدان أخرى تضطهد وتبيد جيرانها، تسرق ثم تدافع عن ما سرقته ... تتشبث بما لديها وتدافع عما تملك ... والعالم بالنسبة للكبار ليس كبيراً بما فيه الكفاية! ... أما رجل الشارع فهو جندي عادي بسيط ... جندي يجد في يده بندقية ويجب عليه أن يحارب قبل أن يعرف السبب ... وأن يموت دون أن يعرف لماذا؟
فماذا إذا كل ما يقولونه عن (عالم جميل) ... و(دنيا رحبة الآفاق) ...؟ ... إنها أشياء لا وجود لها ... الحقيقة المؤسفة: الإيمان باليوتوبيا كتابة وسينما ونفيها إمكانية!! ... المدينة الفاضلة التي منّى الإنسان نفسه بها منذ الأزل ... مدينة عادلة في نهاية التاريخ الملوث بالدم، تنهي عهد الظلم الطويل بانتصار نهائي يجعل من العالم مكاناً مرغوباً يمكن العيش فيه، حيث لا عسف ولا اضطهاد ...
حلم (أفلاطون) في (الجمهورية) في القرن الرابع قبل الميلاد، مدينة فلسفية يحكمها المثاليون ... وكتب (توماس مور) ... (أفضل الجمهوريات) في 1516 ثم (توماس كمبانيلا) صاحب (مدينة المشمس) في 1623 ...
(يوتوبيا) ... كلمة اخترعها (توماس مور) ... كلمة تسخر من نفسها! ... فمعناها (لا مكان)! ... ويؤكد (باتشكو) أن لا يوتوبيا بلا تصور شامل يمزق المجتمع القائم، وينقضه بآخر قوامه فكرة السعادة الجماعية والطمأنينة التي تغمر الجميع! ... وهذا التصور مستحيل! ...
في الأزمة القديمة بدأت فكرة الحلم باليوتوبيا في أذهان الفلاسفة وعقول المفكرين وقلوب الأخلاقيين حتى جاءت أيديولوجيا التاريخ ... سياسة (إلى الأمام)! ... فالتاريخ هو التقدم والتقدم هو معني التاريخ والمبرر الوحيد لوجوده ... وكما يفترض بأن الإنسان عندما يتقدم في العمر فهو يزداد حكمة وهدوءاً، فإن الوجود الإنساني كذلك لابد وأن يشهد عصراً ذهبياً من المعرفة التامة والراحة الشاملة والسعادة الأبدية! ...
لكن هذا – للأسف – مستحيل!! ...
لا تشاؤم في الموضوع، لكنها الحقائق ... فالفكرة ترتكز أساساً على فكرة الكمال في الجنس البشري، فالإنسان غير كامل وهو يتكامل مع الإنسان الآخر وأثناء مراحل نمو واستمرار مع تقدم التاريخ وذلك في مسار مستقيم يتقدم للأمام ولا يقبل بالارتداد! ... وعلى هذا الأساس فاليوتوبيا هي نهاية التاريخ! ...
كتب (مور) في مدينة (لوفان) باللاتينية كتابه (يوتوبيا) وفيه يتخيل رحلة تنقل الراوي إلى مدينة جديدة لم يكتشفها مخلوق ... في مكان مختلف ... في (اللامكان)! ... ما الذي تتميز به هذه المدينة؟ ... بها مؤسسات تجنبت شرور التاريخ الإنساني بالكامل ... ويسرد لنا النمط الحياتي لهؤلاء البشر اليوتوبيون، فهم يقضون حياتهم برياضة الروح وهندسة العقل وتهذيب الأخلاق ... حتى الأطفال يمضون يومهم في تعلم الفنون الجميلة ... هناك يحتقرون المال والذهب والأحجار الكريمة ومن المعادن النفيسة صنعت قيود العبيد الذين أرقوا المدينة الهادئة ... العلاقات مثالية والنظام يسود كل شيء ... ويمكننا أن نتخيل أن (توماس مور) ما فعل أكثر من أن يتأمل في حالنا ثم يصف نقيضه! ... لا تنس أن (مور) كان محملاً بخيرات سياسية واسعة وعلم كامل بالدسائس التي كانت تدور بين يديه وأمام عينيه في بلاط الملك! ... ولن يمر وقت طويل قبل أن تعرف كم كانوا حمق من ظنوا أن المدينة الفاضلة لها وجود حقيقي على الخارطة! ... ربما الآن ...

0 تعليقات:

إرسال تعليق