د. هاني حجاج
hany_haggag@hotmail.com
أوائل عام 1890 انتهى أوسكار وايلد من روايته الأشهر صورة دوريان جراي، وفي نهاية نفس العام ظهرت رواية أخرى مثيرة للجدل بعنوان ( تيليني )، قيل عنها في منشور أصدره الموزع والناشر الإنجليزي ليونارد سميذرز بعد ذلك بثلاثة أعوام، أنها بلا شك، من أقوى وأذكى ما كتب من روايات إيروتيكية باللغة الإنجليزية خلال السنوات المنصرمة، كاتبها أديب ذو خيال مثير، أبدع قصة مدهشة، بُنيت إلى حد ما، على موضوع عولج من قبل أديب مشهور مات قبل بضع شهور! والمشكلة هي أن هذا الأديب مجهول وبمعنى آخر، للرواية – ابنة الحرام ! – عدد لا بأس به من الأدباء. كان موضوع الرواية يتحدث عن حب رجل لآخر. حب بالمعنى المفهوم بين ذكر وأنثى ! لكنها كانت جزلة الأسلوب، بارعة الصياغة، خارقة في وصف العواطف، تجاوزت في سعتها أقصى ما كتب حتى لحظة صدورها من مشاهد حسية، وكانت ثقافة الكاتب الذي لم تتأكد هويته عميقة سهرة أضافت حدة حرّاقة إلى السرد، الفكرة الحسّاسة قد عولجت بطريقة شديدة الإقناع عن العلاقة الآثمة بين شاب باريسي ثري يدعى دي جريو وعازف البيانو تيليني. وكُتب عنها أنها رواية سوف ترتقي، بلا ريب، إلى القمة من حيث الإنجاز، ويمكن القول دون مبالغة، إنها كانت قفزة قل نظيرها في الأدب الإيروتيكي الإنجليزي. وقتها. أشير إلى قصة الكتاب بشكل صريح في مقدمة الطبعة الإنجليزي عام 1966، لمحة تاريخية كتبها مونتجومري هايد يقول فيها إنه في حدود عام 1889 جاء إلى لندن ناشر فرنسي اسمه تشارلز هرتس، افتتح مكتبة أطلق عليها اسم المكتبة الباريسية ببيع المطبوعات الفرنسية، لاقت رواجاً لسنوات كثيرة، وكان من أول زبائنه وأكثرهم تردداً الأديب الكبير أوسكار وايلد الذي كان يمر عليه كثيراً لشراء أعمال الكتاب الفرنسيين الطليعين وقتها مثل إميل زولا، وبعد فترة من الثقة والاتصال بدأ أوسكار وايلد يطلب منه كتباً بالاسم وكان مضمونها الجنسية المثلية، ولم يكن بمقدور موزع الكتب الحصول عليها دون مشقة، وكانت أكثر تلك الأعمال بالطبع باللغة الفرنسية عدا واحداً كان باللغة الانجليزية وكان سيرة ذاتية لمثلي الجنس في لندن المعاصرة، كما أمد الموزع وايلد كتباً أخرى، لها طابع إباحي وتحمل شعار ناشر من أمستردام، ولكنها كانت كروايات البورنو السطحية. بغرض إثارة قحة لا عمق أدبي لها. وعندما كان العام 1890 يوشك على الانتهاء جاء وايلد وتحت إبطه رزمة من الورق ملفوفة بعناية ومختومة كطرود البريد، وطلب من هرتس أن يقدم بتسليم المخطوطة لشاب سوف يأتي في طلبها بعد أن يظهر بطاقته الشخصية، وذكر له اسم الشخص المنتظر. بعد عدة أيام، جاء شاب إلى هرتس وكان هذا الأخير قد شاهده من قبل في صحبة وايلد، أخذ الرزمة وأعادها إليه بعد مدة, لقد دارت هذه المخطوطة على ثلاثة أشخاص، أعادها آخرهم مفتوحة مما أعزى هرتس على فتحها وقراءتها، وكانت الورقة الأولى، بمثابة الغلاف، رمادية اللون ولا تحمل سوى كلمة واحدة: ( تيليني ).
في تلك الأمسية قرأ هرتس المخطوطة في جلسة واحدة، فاستوقفته كثيرا وأدهشته. كانت قصة صادمة، والسبب ليس سردها لعلاقة حب بين رجل ورجل ولكن الطريقة الناعمة الشائقة ( المقنعة ) المخيفة، وجاءت فيها عبارات كهذه: " لكنك شعرت بي حقاً قبل أن أظهر على خشبة المسرح، أليس ذلك صحيحاً؟ " عصرت أصابعه بقوة شاكراً له كل إجاباته " متى أحسست بعيني وهي تنظر إليك؟ سألني بنبرة خافتة بعد وقت " لم أعرف رجلاً تتطابق مشاعره تماماً مع مشاعري. قل لي، أتعتقد أن أية امرأة تستطيع أن تحس فعلاً بهذه الكثافة؟ " كنت أتعذب، عقلي كان جحيماً، وجسدي على نار، هل كان يتعذب بقدر ما أتعذب؟. في تلك الأثناء بالذات، أرخى ذراعه حول خصري، فشعرت بموتها بسبب ثقلها مثل ذراع رجل نائم ". أتظنني مجنوناً، ولكن من هو العاقل ومن هو المجنون؟ من هو الفاضل ومن هو الفاسد في عالمنا؟ أتعرف؟ أنا لا أعرف ! " وجاء في تقديم الرواية على لسان راويها أنه وبعد بضعة أيام من وصوله إلى نيس، شتاءاً، صادف لمرات في المنتزة، رجلاً في سن الشباب ذا بشرة داكنة، نحيفاً، به حدب خفيف في ظهره، لونه شاحب وله عينين زرقاوين جميلتين محاطتين بهالتين سوداوين، ملامحه رقيقة لكنه واهن وعليل بسبب علة نفسية وبدنية سقيمة في آن واحد. كان يبدوا جامداً في مشيته، محياة يظهر تدمير سل لا يرحم. لهذا جاء إلى الريفييرا، لينعم بشمسها للعلاج، وكان وحده في ( نيس ) وبدا كفريسة لكآبة لا شفاء منها. بعدما أجهد الراوية نفسه لاحظ أن ذلك الوحيد الساهم، الذي شاخ قبل أوانه، هو صديقه الشاب ( د ) الذي لم يره منذ المهرجان الذي جرى قبل سنتين في نادي العزاب في لندن. وكان قد التقاه آنذاك صحبة رجل شاحب معروف، فنان مجري يدعى ( ت ) ، كان يبدو على صلة حميمة به. تذكره بسبب معرفتها السابقة، وبشكل تدريجي، وبرغم فارق السن بينهما، أصبحا على صلة طيبة، وقد يكون سبب ذلك القرب بين وجهات نظرهما في مواضيع معينة. عندما كان من الصعب على الشاب النحيل أن يقوم بجولته اليومية، كانا يقومان بها معاً، وعندما كان يتعين عليه عدم مغادرة حجرته، كان ينضم الراوي إليه، كانا نزيلين في نفس الفندق، الوحيدين تقريباً منذ اقترب الموسم من نهايته. وكأي شخص آخر، كان قد سمع بالموت المأسوي للمدعو ( ت )، ذلك الذي انتحر دون أن يعرف أحد السبب الحقيقي، وحول ذلك الانتحار دارت العديد من الافتراضات الفضائحية. وبطبيعة الحال، فإن اسم ذلك الموسيقى اقتحم بسرعة أحاديثها، وشيئاً فشيئاً حصل الراوي من صديقه الشاب البائس على سرد كامل للعلاقة بينهما وبناء عليه فهم وبدأ التدوين دون حذف لما رواه تدريجياً عن تاريخ علاقتهما العاطفية غير الطبيعية، ودوّن كذلك، بالنظر لفرادتها، مجموعة من الأفكار والنزوات والحكم الفلسفية المناهضة للدين – لاحظ أن ذلك هو نفس ما فعله وايلد في صورة دوريان جراي إذ عرج من قصة الشاب الملعون وشذوذه المثير إلى نظرة شاملة ناقدة للكون ذاته – هذه الأفكار التي عبر ذلك الشاب من خلالها عن استياءه وضجره من المبادئ والأعراف التي تهيمن على المجتمع. السرد الآتي بعد المقدمة إذن ليس بالرواية، إنه على الأرجح قصة حقيقية من طراز ( حدث بالفعل ) أو ( قصة مبنية على حكاية واقعية ): المغامرات المثيرة لشابين وسيمين ذويا طبيعة شديدة الرهافة، حساسة ورقيقة، تلك العلاقة التي ضربها الموت في مقتل، بعد أن حلّق صاحبها في سماء العاطفة، والتي سوف يساء فهمها فيما بعد، دون شك، من قبل الغالبية العظمى من الرجال. إن هذا السرد، بطبيعة الحال ( الذي سيأخذ أحياناً صيغة الحوار ) سوف ينقي، من أية حماقة تؤدي إلى الوصول إلى هوية الشخصيات الرئيسية، ويطلب الراوي من القارئ المخلص أن يكون مكتفٍ بقراءة القصة دون قياسات إضافية صارمة، القصة التي تحكي بأسماء مستعارة، عن الحب بين كامي دي جريو ورينيه تيليني. ويضيف كنوع من الخاتمة، بأن الموت المحزن للراوي قد حدث مباشرة بعد الانتهاء من ختام الفصل الأخير من اعترافاته. مات ( د ) بسلام في يوم جميل من شهر مايو، وكان الراوي هو المشارك الوحيد في مراسيم الجنازة المسائية التي تقام في ( نيس ) للمرضى الأجانب الآتين إلى هناك ليموتوا. تنفيذاً لوصيته، لم يخبر أمخ بموته، وإنما أرسل إشعاراً إلى محاميه ليتولى إدارة أموره في لندن، وقام باللازم لشحن جثمانه إلى هناك. إنه يرقد الآن في مقبرة برومبتن تحت قطعة من المرمر الأبيض الخالية من أي نقش. في ذلك الضريح الذي أعده خلال حياته، والذي ضم قبله بقايا تيليني الفاتنة. ظهر كتاب في نهاية العام الذي أعلن عنه في لندن، بمئتي نسخة تحت عنوان ( تيليني أو الوجه الثاني للميدالية – رواية جسدية ) ولم يظهر عليها اسم المؤلف، وللتهرب من الرقابة أو بوليس الآداب، أشير إلى مكان النشر باسم – وهمي غالباً – هو ( كوزمو بولي )، بينما كان مكان الصف والطبع، في الحقيقة، في فرنسا. وكانت أحداث الرواية تدور في لندن، لكن ما استوقف ( هرتس ) على وجه الخصوص، الخليط المتضارب من خطوط اليد المختلفة وكثرة المحو والشطب والعلامات والتصحيحات والكشط والإضافات التي حفلت بها المخطوطة. وأشار ( هرتس ) إلى الأمر قائلاً: كان من الواضح بالنسبة لي، أن مجموعة من الكتاب، يتفاوتون في قدراتهم الأدبية، قد تعاونوا على كتابة ذلك العمل المجهول الأصل والعمق في الآن ذاته. أخبر ( هرتس ) ( داوز ) الذي كان رقيباً على الأدب الإيروتيكي في انجلترا وقتها، بأن تيليني قد كتبت، بدون شك، من قبل أصدقاء عديدين لأوسكار وايلد، مضيفاً شيئاً من لمساته هنا وهناك. وعندما انتهى هرتس من قراءة المخطوطة أعادها إلى وايلد، ولم يعد يفكر فيها، غير أنها لفتت نظره ثانية، عندما أصدرها ليونارد سميذرز قد استلم المخطوطة من وايلد بنفسه. أما المدعو ليونارد سميذرز فهو أحد الشخصيات الغامضة في عالم الأدب في عقد التسعينات من القرن التاسع عشر، ففي الوقت الذي صدرت فيه مجموعة وايلد ( الأمير السعيد ) عام 1888، كان سميذرز في العشرينات من عمره وقتها، في آخر العشرينات، وكان يتدرب في مكتب للمحاماة بشيفيلد. تأثر سميذرز بتلك المجموعة وكتب رسالة أبدى فيها إعجابه بها لوايلد ثم قابله شخصياً فيما بعد. كان تأثر سميذرز قوياً لدرجة أن وايلد أهداه مخطوطة الأمير السعيد. وفي عام 1892، انتقل سميذرز إلى لندن ودخل في شراكة مع ( ه. س. نيكولي ) لتأسيس شركة لطباعة ونشر وتوزيع الكتب، ونشر خلال السنوات القليلة الثالثة أفضل ما كتب خلال تلك الفترة في طبعات بديعة غاية في الأناقة، مثل أعمال أوبري بيردزلي، آرنست داوسن، اللورد ألفريد دوجلاس، وماكس بيربوم و.. أوسكار وايلد! ثم أصدر مجلة ( سافوي ) وكان أوبري بيردزلي يحررها له. بقى سميذرز على اتصال بوايلد بعد محاكمته الشهيرة، ونشر أول طبعة لـــــ ( أنشودة سجن ريدنج ) وتخصص كذلك في الأدب الأيروتيكي عالي المستوى، كان مثل محور وقطب للثقافة المضادة. أفلس في عام 1900، نفس العام الذي توفى فيه وايلد، ثم مات وهو في حالة فاقة شديدة وعوز فظيع في ديسمبر عام 1907، يبدو أن اختيار الموهبة الموسيقية لبطل الرواية يدل على عمق التحليل النفسي للعمل، إذ لاحظ هافلوك أليسي في كتابه ( تحليل نفسي للجنس ) أن الموسيقى قد تشجّع على الاتجاه إلى الجنس المثالي، وبالغ البعض في هذا الرأي لدرجة أن أحدهم قد ادعى بأن كل الموسيقيين المشهورين، الأحياء منهم والأموات، كانوا من الشواذ مثليي الجنس! والذي حدث أن هرتس قد وجد نسخة مطابقة لنسخة سميذرز، باستثناء بعض التفصيلات التي لا تكاد تذكر، أما المقدمة فكانت محذوفة وكانت تعرّف القارئ بشخصيات الرواية كما جرى العرف. وقتها. ولم يكن العنوان الفرعي ( الوجه الآخر للميدالية ) موجوداً ويوجد اختلاف جوهري هو المكان الذي كانت تدور فيه الأحداث، إذ انقلب من انجلترا إلى فرنسا في طبعة سميذرز، وهذه هي النقطة المثيرة للحيرة، إذ كان من العسير على هرتس أن يجد صلة تذكر بين الأماكن التي قرأها في المخطوطة وبينها كما ظهرت في الطبعة التي صدرت بها الرواية. عمل وايلد على تيليني في ربيع 1890 بعد صدور أول طبعة من ( صورة دوريان جراي ) منشورة في مجلة لينبكوت، وهنا حاول التعبير عن أفكاره الجنسية بشكل أكثر مباشرة وصراحة، وهو قرار بالغ الخطورة لأديب يصعد نجمه، إلا أن بعض جرأته دغدغ قرائه في العصر الفيكتوري خصوصاً تناوله لفكرة الانحلال المجتمعي، لكن رد فعل النقاد الذي لم يكن في طريقه للين كان شنيعاً حقوداً محافظاً ومن ذلك ما كتبته صحيفة لندنية اسمها ( ديلي كرونكل ) في باب نقد الكتب عن دوريان جراي [ حكاية فرضت من أدب جذام الانحطاط الفرنسي، كتاب مسموم، جو معبق بنتانة وتعفن القيم الروحية والأخلاقية ] وقالت ( سكوتش أوبزرفر ) إن السيد وايلد يمتلك عقلاً وفناً وأسلوباً، لكن إذ كان لا يستطيع أن يكتب إلا لمجموعة من النبلاء الخارجين على القانون وفتيات البرقيات المنحرفين، فكلما أسرع في احتراف الخياطة، أو أية مهنة شريفة أخرى، كان أفضل لسمعته الشخصية وللأخلاق العامة. وكان رد فعل أوسكار أن راسل المحرر قائلاً: إذا كان المرء ينظر إلى جمال الشيء الفني فسوف يعير، على الأرجح، أهمية ضئيلة لقيمته الأخلاقية.
وإذا كان حس المرء الأخلاقي أكثر تأثراً من حسه الجمالي، فسوف يتعامى عن أسئلة الأسلوب، المعالجة وما شابه ذلك. إن الأمر يحتاج إلى واحد مثل جوته كي يرى كمال وجال عمل فني، وأنا أتفق تماماً مع من قال إنه لمن المؤسف أن الفرصة لم تسنح لجوته كي يقرأ صورة دويان جراي !!
hany_haggag@hotmail.com
أوائل عام 1890 انتهى أوسكار وايلد من روايته الأشهر صورة دوريان جراي، وفي نهاية نفس العام ظهرت رواية أخرى مثيرة للجدل بعنوان ( تيليني )، قيل عنها في منشور أصدره الموزع والناشر الإنجليزي ليونارد سميذرز بعد ذلك بثلاثة أعوام، أنها بلا شك، من أقوى وأذكى ما كتب من روايات إيروتيكية باللغة الإنجليزية خلال السنوات المنصرمة، كاتبها أديب ذو خيال مثير، أبدع قصة مدهشة، بُنيت إلى حد ما، على موضوع عولج من قبل أديب مشهور مات قبل بضع شهور! والمشكلة هي أن هذا الأديب مجهول وبمعنى آخر، للرواية – ابنة الحرام ! – عدد لا بأس به من الأدباء. كان موضوع الرواية يتحدث عن حب رجل لآخر. حب بالمعنى المفهوم بين ذكر وأنثى ! لكنها كانت جزلة الأسلوب، بارعة الصياغة، خارقة في وصف العواطف، تجاوزت في سعتها أقصى ما كتب حتى لحظة صدورها من مشاهد حسية، وكانت ثقافة الكاتب الذي لم تتأكد هويته عميقة سهرة أضافت حدة حرّاقة إلى السرد، الفكرة الحسّاسة قد عولجت بطريقة شديدة الإقناع عن العلاقة الآثمة بين شاب باريسي ثري يدعى دي جريو وعازف البيانو تيليني. وكُتب عنها أنها رواية سوف ترتقي، بلا ريب، إلى القمة من حيث الإنجاز، ويمكن القول دون مبالغة، إنها كانت قفزة قل نظيرها في الأدب الإيروتيكي الإنجليزي. وقتها. أشير إلى قصة الكتاب بشكل صريح في مقدمة الطبعة الإنجليزي عام 1966، لمحة تاريخية كتبها مونتجومري هايد يقول فيها إنه في حدود عام 1889 جاء إلى لندن ناشر فرنسي اسمه تشارلز هرتس، افتتح مكتبة أطلق عليها اسم المكتبة الباريسية ببيع المطبوعات الفرنسية، لاقت رواجاً لسنوات كثيرة، وكان من أول زبائنه وأكثرهم تردداً الأديب الكبير أوسكار وايلد الذي كان يمر عليه كثيراً لشراء أعمال الكتاب الفرنسيين الطليعين وقتها مثل إميل زولا، وبعد فترة من الثقة والاتصال بدأ أوسكار وايلد يطلب منه كتباً بالاسم وكان مضمونها الجنسية المثلية، ولم يكن بمقدور موزع الكتب الحصول عليها دون مشقة، وكانت أكثر تلك الأعمال بالطبع باللغة الفرنسية عدا واحداً كان باللغة الانجليزية وكان سيرة ذاتية لمثلي الجنس في لندن المعاصرة، كما أمد الموزع وايلد كتباً أخرى، لها طابع إباحي وتحمل شعار ناشر من أمستردام، ولكنها كانت كروايات البورنو السطحية. بغرض إثارة قحة لا عمق أدبي لها. وعندما كان العام 1890 يوشك على الانتهاء جاء وايلد وتحت إبطه رزمة من الورق ملفوفة بعناية ومختومة كطرود البريد، وطلب من هرتس أن يقدم بتسليم المخطوطة لشاب سوف يأتي في طلبها بعد أن يظهر بطاقته الشخصية، وذكر له اسم الشخص المنتظر. بعد عدة أيام، جاء شاب إلى هرتس وكان هذا الأخير قد شاهده من قبل في صحبة وايلد، أخذ الرزمة وأعادها إليه بعد مدة, لقد دارت هذه المخطوطة على ثلاثة أشخاص، أعادها آخرهم مفتوحة مما أعزى هرتس على فتحها وقراءتها، وكانت الورقة الأولى، بمثابة الغلاف، رمادية اللون ولا تحمل سوى كلمة واحدة: ( تيليني ).
في تلك الأمسية قرأ هرتس المخطوطة في جلسة واحدة، فاستوقفته كثيرا وأدهشته. كانت قصة صادمة، والسبب ليس سردها لعلاقة حب بين رجل ورجل ولكن الطريقة الناعمة الشائقة ( المقنعة ) المخيفة، وجاءت فيها عبارات كهذه: " لكنك شعرت بي حقاً قبل أن أظهر على خشبة المسرح، أليس ذلك صحيحاً؟ " عصرت أصابعه بقوة شاكراً له كل إجاباته " متى أحسست بعيني وهي تنظر إليك؟ سألني بنبرة خافتة بعد وقت " لم أعرف رجلاً تتطابق مشاعره تماماً مع مشاعري. قل لي، أتعتقد أن أية امرأة تستطيع أن تحس فعلاً بهذه الكثافة؟ " كنت أتعذب، عقلي كان جحيماً، وجسدي على نار، هل كان يتعذب بقدر ما أتعذب؟. في تلك الأثناء بالذات، أرخى ذراعه حول خصري، فشعرت بموتها بسبب ثقلها مثل ذراع رجل نائم ". أتظنني مجنوناً، ولكن من هو العاقل ومن هو المجنون؟ من هو الفاضل ومن هو الفاسد في عالمنا؟ أتعرف؟ أنا لا أعرف ! " وجاء في تقديم الرواية على لسان راويها أنه وبعد بضعة أيام من وصوله إلى نيس، شتاءاً، صادف لمرات في المنتزة، رجلاً في سن الشباب ذا بشرة داكنة، نحيفاً، به حدب خفيف في ظهره، لونه شاحب وله عينين زرقاوين جميلتين محاطتين بهالتين سوداوين، ملامحه رقيقة لكنه واهن وعليل بسبب علة نفسية وبدنية سقيمة في آن واحد. كان يبدوا جامداً في مشيته، محياة يظهر تدمير سل لا يرحم. لهذا جاء إلى الريفييرا، لينعم بشمسها للعلاج، وكان وحده في ( نيس ) وبدا كفريسة لكآبة لا شفاء منها. بعدما أجهد الراوية نفسه لاحظ أن ذلك الوحيد الساهم، الذي شاخ قبل أوانه، هو صديقه الشاب ( د ) الذي لم يره منذ المهرجان الذي جرى قبل سنتين في نادي العزاب في لندن. وكان قد التقاه آنذاك صحبة رجل شاحب معروف، فنان مجري يدعى ( ت ) ، كان يبدو على صلة حميمة به. تذكره بسبب معرفتها السابقة، وبشكل تدريجي، وبرغم فارق السن بينهما، أصبحا على صلة طيبة، وقد يكون سبب ذلك القرب بين وجهات نظرهما في مواضيع معينة. عندما كان من الصعب على الشاب النحيل أن يقوم بجولته اليومية، كانا يقومان بها معاً، وعندما كان يتعين عليه عدم مغادرة حجرته، كان ينضم الراوي إليه، كانا نزيلين في نفس الفندق، الوحيدين تقريباً منذ اقترب الموسم من نهايته. وكأي شخص آخر، كان قد سمع بالموت المأسوي للمدعو ( ت )، ذلك الذي انتحر دون أن يعرف أحد السبب الحقيقي، وحول ذلك الانتحار دارت العديد من الافتراضات الفضائحية. وبطبيعة الحال، فإن اسم ذلك الموسيقى اقتحم بسرعة أحاديثها، وشيئاً فشيئاً حصل الراوي من صديقه الشاب البائس على سرد كامل للعلاقة بينهما وبناء عليه فهم وبدأ التدوين دون حذف لما رواه تدريجياً عن تاريخ علاقتهما العاطفية غير الطبيعية، ودوّن كذلك، بالنظر لفرادتها، مجموعة من الأفكار والنزوات والحكم الفلسفية المناهضة للدين – لاحظ أن ذلك هو نفس ما فعله وايلد في صورة دوريان جراي إذ عرج من قصة الشاب الملعون وشذوذه المثير إلى نظرة شاملة ناقدة للكون ذاته – هذه الأفكار التي عبر ذلك الشاب من خلالها عن استياءه وضجره من المبادئ والأعراف التي تهيمن على المجتمع. السرد الآتي بعد المقدمة إذن ليس بالرواية، إنه على الأرجح قصة حقيقية من طراز ( حدث بالفعل ) أو ( قصة مبنية على حكاية واقعية ): المغامرات المثيرة لشابين وسيمين ذويا طبيعة شديدة الرهافة، حساسة ورقيقة، تلك العلاقة التي ضربها الموت في مقتل، بعد أن حلّق صاحبها في سماء العاطفة، والتي سوف يساء فهمها فيما بعد، دون شك، من قبل الغالبية العظمى من الرجال. إن هذا السرد، بطبيعة الحال ( الذي سيأخذ أحياناً صيغة الحوار ) سوف ينقي، من أية حماقة تؤدي إلى الوصول إلى هوية الشخصيات الرئيسية، ويطلب الراوي من القارئ المخلص أن يكون مكتفٍ بقراءة القصة دون قياسات إضافية صارمة، القصة التي تحكي بأسماء مستعارة، عن الحب بين كامي دي جريو ورينيه تيليني. ويضيف كنوع من الخاتمة، بأن الموت المحزن للراوي قد حدث مباشرة بعد الانتهاء من ختام الفصل الأخير من اعترافاته. مات ( د ) بسلام في يوم جميل من شهر مايو، وكان الراوي هو المشارك الوحيد في مراسيم الجنازة المسائية التي تقام في ( نيس ) للمرضى الأجانب الآتين إلى هناك ليموتوا. تنفيذاً لوصيته، لم يخبر أمخ بموته، وإنما أرسل إشعاراً إلى محاميه ليتولى إدارة أموره في لندن، وقام باللازم لشحن جثمانه إلى هناك. إنه يرقد الآن في مقبرة برومبتن تحت قطعة من المرمر الأبيض الخالية من أي نقش. في ذلك الضريح الذي أعده خلال حياته، والذي ضم قبله بقايا تيليني الفاتنة. ظهر كتاب في نهاية العام الذي أعلن عنه في لندن، بمئتي نسخة تحت عنوان ( تيليني أو الوجه الثاني للميدالية – رواية جسدية ) ولم يظهر عليها اسم المؤلف، وللتهرب من الرقابة أو بوليس الآداب، أشير إلى مكان النشر باسم – وهمي غالباً – هو ( كوزمو بولي )، بينما كان مكان الصف والطبع، في الحقيقة، في فرنسا. وكانت أحداث الرواية تدور في لندن، لكن ما استوقف ( هرتس ) على وجه الخصوص، الخليط المتضارب من خطوط اليد المختلفة وكثرة المحو والشطب والعلامات والتصحيحات والكشط والإضافات التي حفلت بها المخطوطة. وأشار ( هرتس ) إلى الأمر قائلاً: كان من الواضح بالنسبة لي، أن مجموعة من الكتاب، يتفاوتون في قدراتهم الأدبية، قد تعاونوا على كتابة ذلك العمل المجهول الأصل والعمق في الآن ذاته. أخبر ( هرتس ) ( داوز ) الذي كان رقيباً على الأدب الإيروتيكي في انجلترا وقتها، بأن تيليني قد كتبت، بدون شك، من قبل أصدقاء عديدين لأوسكار وايلد، مضيفاً شيئاً من لمساته هنا وهناك. وعندما انتهى هرتس من قراءة المخطوطة أعادها إلى وايلد، ولم يعد يفكر فيها، غير أنها لفتت نظره ثانية، عندما أصدرها ليونارد سميذرز قد استلم المخطوطة من وايلد بنفسه. أما المدعو ليونارد سميذرز فهو أحد الشخصيات الغامضة في عالم الأدب في عقد التسعينات من القرن التاسع عشر، ففي الوقت الذي صدرت فيه مجموعة وايلد ( الأمير السعيد ) عام 1888، كان سميذرز في العشرينات من عمره وقتها، في آخر العشرينات، وكان يتدرب في مكتب للمحاماة بشيفيلد. تأثر سميذرز بتلك المجموعة وكتب رسالة أبدى فيها إعجابه بها لوايلد ثم قابله شخصياً فيما بعد. كان تأثر سميذرز قوياً لدرجة أن وايلد أهداه مخطوطة الأمير السعيد. وفي عام 1892، انتقل سميذرز إلى لندن ودخل في شراكة مع ( ه. س. نيكولي ) لتأسيس شركة لطباعة ونشر وتوزيع الكتب، ونشر خلال السنوات القليلة الثالثة أفضل ما كتب خلال تلك الفترة في طبعات بديعة غاية في الأناقة، مثل أعمال أوبري بيردزلي، آرنست داوسن، اللورد ألفريد دوجلاس، وماكس بيربوم و.. أوسكار وايلد! ثم أصدر مجلة ( سافوي ) وكان أوبري بيردزلي يحررها له. بقى سميذرز على اتصال بوايلد بعد محاكمته الشهيرة، ونشر أول طبعة لـــــ ( أنشودة سجن ريدنج ) وتخصص كذلك في الأدب الأيروتيكي عالي المستوى، كان مثل محور وقطب للثقافة المضادة. أفلس في عام 1900، نفس العام الذي توفى فيه وايلد، ثم مات وهو في حالة فاقة شديدة وعوز فظيع في ديسمبر عام 1907، يبدو أن اختيار الموهبة الموسيقية لبطل الرواية يدل على عمق التحليل النفسي للعمل، إذ لاحظ هافلوك أليسي في كتابه ( تحليل نفسي للجنس ) أن الموسيقى قد تشجّع على الاتجاه إلى الجنس المثالي، وبالغ البعض في هذا الرأي لدرجة أن أحدهم قد ادعى بأن كل الموسيقيين المشهورين، الأحياء منهم والأموات، كانوا من الشواذ مثليي الجنس! والذي حدث أن هرتس قد وجد نسخة مطابقة لنسخة سميذرز، باستثناء بعض التفصيلات التي لا تكاد تذكر، أما المقدمة فكانت محذوفة وكانت تعرّف القارئ بشخصيات الرواية كما جرى العرف. وقتها. ولم يكن العنوان الفرعي ( الوجه الآخر للميدالية ) موجوداً ويوجد اختلاف جوهري هو المكان الذي كانت تدور فيه الأحداث، إذ انقلب من انجلترا إلى فرنسا في طبعة سميذرز، وهذه هي النقطة المثيرة للحيرة، إذ كان من العسير على هرتس أن يجد صلة تذكر بين الأماكن التي قرأها في المخطوطة وبينها كما ظهرت في الطبعة التي صدرت بها الرواية. عمل وايلد على تيليني في ربيع 1890 بعد صدور أول طبعة من ( صورة دوريان جراي ) منشورة في مجلة لينبكوت، وهنا حاول التعبير عن أفكاره الجنسية بشكل أكثر مباشرة وصراحة، وهو قرار بالغ الخطورة لأديب يصعد نجمه، إلا أن بعض جرأته دغدغ قرائه في العصر الفيكتوري خصوصاً تناوله لفكرة الانحلال المجتمعي، لكن رد فعل النقاد الذي لم يكن في طريقه للين كان شنيعاً حقوداً محافظاً ومن ذلك ما كتبته صحيفة لندنية اسمها ( ديلي كرونكل ) في باب نقد الكتب عن دوريان جراي [ حكاية فرضت من أدب جذام الانحطاط الفرنسي، كتاب مسموم، جو معبق بنتانة وتعفن القيم الروحية والأخلاقية ] وقالت ( سكوتش أوبزرفر ) إن السيد وايلد يمتلك عقلاً وفناً وأسلوباً، لكن إذ كان لا يستطيع أن يكتب إلا لمجموعة من النبلاء الخارجين على القانون وفتيات البرقيات المنحرفين، فكلما أسرع في احتراف الخياطة، أو أية مهنة شريفة أخرى، كان أفضل لسمعته الشخصية وللأخلاق العامة. وكان رد فعل أوسكار أن راسل المحرر قائلاً: إذا كان المرء ينظر إلى جمال الشيء الفني فسوف يعير، على الأرجح، أهمية ضئيلة لقيمته الأخلاقية.
وإذا كان حس المرء الأخلاقي أكثر تأثراً من حسه الجمالي، فسوف يتعامى عن أسئلة الأسلوب، المعالجة وما شابه ذلك. إن الأمر يحتاج إلى واحد مثل جوته كي يرى كمال وجال عمل فني، وأنا أتفق تماماً مع من قال إنه لمن المؤسف أن الفرصة لم تسنح لجوته كي يقرأ صورة دويان جراي !!
0 تعليقات:
إرسال تعليق